تُعدّ الرضاعة الطبيعية من أسمى صور العطاء الإنساني، ومن أبرز النعم التي منّ الله بها على الأمهات، فهي ليست مجرد وسيلة لإشباع جوع الطفل، بل هي علاقة إنسانية وروحية عميقة تُجسّد الرحمة والحنان، وتمنح الأم ورضيعها صحةً وسعادةً لا تُقدَّران بثمن.
ولهذا أَولى الإسلام عناية خاصة بالرضاعة الطبيعية، وجعلها حقاً للطفل وواجباً على الأم، حيث قال تعالى في محكم التنزيل:
«وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ»، «سورة البقرة»، وفي ذات السياق، أشار القرآن إلى ضرورة التشاور والتفاهم بين الوالدين في شأن الرضاعة، فقال سبحانه: «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا»، «وهذا التوجيه الإلهي يعكس مدى اهتمام الشريعة الإسلامية برعاية الطفل منذ ولادته وحتى فطامه، مع الحفاظ على صحة الأم النفسية والجسدية».
والعجيب أن الأبحاث الطبية الحديثة تتفق مع قول الله تعالى في تحديد فترة الرضاعة الطبيعية وأنها الغذاء الأمثل للطفل في سنواته الأولى، لما تحتويه من عناصر غذائية متكاملة لا يمكن لأي حليب صناعي أن يعوضها.
فهي تقوّي جهاز المناعة، وتساعد في مقاومة الأمراض المعدية، وتُسهم في النمو العقلي والبدني السليم، كما تقي الطفل من أمراض السمنة والسكري في مراحل عمرية لاحقة.
ويشير خبراء التغذية إلى أن الأطفال الذين يرضَعون طبيعياً يتمتعون بنسبة ذكاء أعلى واستقرار نفسي أفضل مقارنة بأقرانهم الذين يعتمدون على الحليب الصناعي.
ولا تقتصر الفوائد على الطفل فحسب، بل تمتد إلى الأم أيضاً. إذ تُسهم الرضاعة الطبيعية في تسريع تعافيها بعد الولادة، وتساعد على انقباض الرحم وتقليل النزيف.
كما تقلل من مخاطر الإصابة بسرطان الثدي والمبيض، وتساعد في تنظيم الهرمونات ومن ثم تنظيم الحمل بصورة طبيعية.
إضافة إلى ذلك، تعزز الرضاعة الروابط العاطفية بين الأم وطفلها، وتقلل من احتمالات الإصابة باكتئاب ما بعد الولادة.
متى تصبح الرضاعة ضرورة؟ ومتى تتحول إلى ضرر؟
في الأشهر الستة الأولى من حياة الطفل، تكون الرضاعة الطبيعية ضرورة حيوية لا غنى عنها، غير أن هناك حالات استثنائية قد تجعل الرضاعة الطبيعية ضارة أو غير آمنة، وتتعدد هذه الأسباب ما بين ما هو طبي وما هو نفسي أو اجتماعي، ومن أبرزها:
الموانع الصحية:قد تُمنع بعض الأمهات من الرضاعة الطبيعية بسبب إصابتهن بأمراض معدية يمكن أن تنتقل إلى الطفل عن طريق الحليب، مثل فيروس نقص المناعة (HIV) أو الالتهاب الكبدي من نوع (C)، أو في حالات تلقي علاج كيميائي أو إشعاعي يتسرب أثره إلى الحليب.. ضعف أو انقطاع الحليب: بعض النساء يعانين من ضعف إفراز الحليب نتيجة اضطرابات هرمونية أو سوء تغذية حاد، أو بسبب ولادة قيصرية متعسرة، مما يجعل الحليب غير كافٍ لتلبية احتياجات الرضيع.
العودة المبكرة إلى العمل:تضطر العديد من الأمهات العاملات إلى الفطام المبكر أو الاعتماد على الحليب الصناعي بسبب عدم توافر بيئة عمل داعمة للرضاعة، كغياب أماكن مخصصة أو فترات راحة كافية للرضاعة أو شفط الحليب.
الاضطرابات النفسية أو الإرهاق الشديد:قد تعاني بعض الأمهات من اكتئاب ما بعد الولادة أو الإجهاد المزمن، مما يؤثر سلباً على إفراز الحليب واستقرار الحالة النفسية، فيلجأن إلى البدائل الصناعية مؤقتاً.
نقص الوعي أو المفاهيم الخاطئة:في بعض المجتمعات، لاتزال تسود أفكار خاطئة حول الرضاعة الطبيعية، كاعتبارها مرهقة أو غير كافية، أو اعتقاد بعض الأمهات أن الحليب الصناعي «أفضل وأكثر تغذية»، وهي مفاهيم تحتاج إلى تصحيح من خلال الحملات التوعوية والإرشاد الصحي.ورغم أن الحليب الصناعي يُعدّ خياراً آمناً في بعض الحالات الخاصة، إلا أنه لا يمكن أن يعوّض بالكامل حليب الأم الذي يتميز بتكوينه الفريد ومناعته الطبيعية. لذا ينصح الأطباء دائماً بأن يكون اللجوء إلى الحليب الصناعي آخر الحلول، وأن يتم تحت إشراف طبي، حفاظاً على صحة الطفل ونموه السليم.
الخلاصة:إن الرضاعة الطبيعية ليست مجرد فعل بيولوجي، بل عبادة وسنة نبوية تُعبّر عن أسمى معاني الرحمة والعطاء. وقد ذكّرنا الله تعالى بمكانة الأم وعظيم تضحيتها في قوله:“وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً». «الأحقاف: 15».فالرضاعة الطبيعية ليست فقط غذاءً للجسد، بل هي رسالة حب وحنان وعبادة خالصة لله.
