الشيخ عبدالرحمن الجودر تميز بالتقوى والورع ورفَض مناصبَ خشيةً من الله
أيمن شكل تصوير: نايف صالح
حفيد خطيب مسجد الشيخ عيسى بن علي في ستينيات القرن الماضي يروي مسيرته
درَس العلم في البصرة وفارس وتسلق الجبال بحثاً عن العلم
كان يخبز في بيته ثم يذهب به للخباز ويعطيه الأجرة
أنجب العديد من الأبناء خطفهم مرض السل صغاراً
وُلد يتيمَ الأب وتُوفِّيت والدته ببلوغه السادسة
قبر كان ينتظر والده في جزيرة مجهولة
أحد رجالات عائلة الجودر العريقة الذي حفر اسمه في قلوب من درسوا العلم على يديه، واستمعوا لخطبه، ولد يتيماً وعاش يتيماً فاقداً لإخوته الذين ماتوا قبل ولادته، ورأى الموت يخطف أمه وزوجاته وأبناءه وبناته، لكن ذلك انعكس على حبه للعلم ودراسته وتدريسه، فذهب إلى البصرة وبلاد فارس طلباً للعلم، وعاش حياته حريصاً على التقوى والورع فرفض أموالاً ومناصب لخشيته من الله.
هو الشيخ عبدالرحمن بن حسين الجودر الذي عاش خلال الفترة ما بين نهاية القرن التاسع عشر ووصل إلى ثمانينيات القرن العشرين حيث توفي عام 1983 وقد أتم قرناً من الزمن قضاه في خدمة الدين وتدريسه وتولى الخطابة في جامع الشيخ عيسى بن علي في المحرق خلال ستينيات القرن الماضي، يسرد مسيرة حياته حفيده المعلم الأستاذ أحمد الجودر في لقاء مع «الوطن»، وفيما يلي نص اللقاء:
حدثنا عن الشيخ الراحل؟
هو الشيخ عبد الرحمن بن حسين بن جاسم بن محمد بن صالح بن فارس آل جودر، أمه آمنة بنت الشيخ عبد الله بن سلطان آل جودر والتي أنجبت قبله عدة إخوة، لكنه لم يَرَهم، فقد توفوا قبل ولادته، وأراد الله للشيخ أن يعيش، ولما أتم من عمره سنتين، وبدأ بالثالثة توفي أبوه في البحر؛ لذا فهو لا يتذكر أباه، ولم يفطن له؛ فعاش يتيماً في كنف أمه.
وتناقلت الأخبار حادثة وفاة والده في البحر حين كان ذاهباً للتجارة في الهند، وخلال رحلة تستمر لعدة شهور، كان البحارة يأخذون معهم أكفاناً لأن المسافرين والبحارة يموتون خلال تلك الرحلة الطويلة، فيتم تكفينهم وإلقاء الجثامين في البحر، وعندما توفي والد الشيخ عبدالرحمن رفضوا إلقاءه في البحر، وقرروا البحث عن جزيرة قريبة ليدفن فيها، والغريب أنهم توقفوا عند جزيرة غير مأهولة ليجدوا أمامهم قبراً مفتوحاً وجاهزاً للدفن، فدفنوا جثمان حسين فيه، ولذلك لم يعرف أحد مكان دفنه بعد ذلك.
ولما بلغ الخامسة من عمره أصيب بمرض الجدري، وقد كان هذا المرض منتشراً في ذلك الوقت، فمرّضته أمه حتى شفي، لكن الله توفاها حين كان في السادسة من عمره فبات يتيم الأبوين، ولذلك كفله خاله أحمد بن الشيخ عبد الله بن سلطان آل جودر حيث أخذه من قلالي إلى المحرق وتربى على يديه، وفي تلك الفترة كان خاله أحد رجالات الدولة حيث تميز بعلمه الغزير وتحدثه عدة لغات، فكلفه الشيخ عيسى بن علي آل خليفة بأن يمثل الدولة أمام الإنجليز آنذاك.
متى كانت أول زيجاته؟
لما رأى عمه منه استقامته وطيب أخلاقه عرض عليه ابنته شيخة، التي تزوجها حين بلغ السادسة عشرة من عمره وأنجب منها حسين ومحمد، لكن الله اختار أول زوجاته حين أصيبت بمرض الطاعون وتوفيت بعد 4 سنوات من زواجهما، وتركت له حُسيناً ذا السنتين، ومحمداً في عمر سنة واللذين ربتهما جدتهما زوجة عمه الشيخ أحمد بن جاسم.
وبعد وفاة زوجته الأولى عرض عليه عمه أن يتزوج طليقته سلامة بنت محمد، فتزوجها بحسب رغبة عمه، وعاش معها مدة قصيرة، أنجبت خلالها ابنته آمنة، ثم طلقها، وتزوج بعدها عائشة بنت الشيخ سلطان بن علي
آل جودر وهي ابنة عمته فأنجبت منه ستة، بنتا واحدة وخمسة ذكور توفوا جميعا وهم صغار، ما عدا عبد الله وإبراهيم، لتلحقهم والدتهم وتتولى خالة أمهم تربية عبدالله وإبراهيم.
كيف فقد الشيخ عبدالرحمن أبناءه وبناته خلال رحلة الزواج المتعدد؟
بعد وفاة زوجته عائشة، قرر الشيخ عبدالرحمن أن يتزوج من ابنة عمه أحمد بن جاسم، والتي أنجبت له 4 بنات لكن أصبن وهن صغيرات، بمرض السل، فتوفين جميعهن في شهر واحد، ثم وضعت زوجته الابنة الرابعة، ولحقت ببناتها بعد أن أصيبت بمرض السل أيضاً، وبقيت الطفلة الصغيرة، ثم توفيت بعد أمها بشهرين بالمرض نفسه.
ومكث الشيخ عبدالرحمن مـدة مـن غير زواج، ثم تزوج لمدة 3 شهور وقرر أن يطلق تلك الزوجة، ليتزوج من زوجته الأخيرة مريم التي أنجبت له 5 بنات لكن الخامسة ماتت في بطن أمها قبل الولادة.
كيف بدأ الشيخ عبدالرحمن رحلة العلم؟
تعلم الشيخ عبدالرحمن الجودر القرآن والفقه على يد خاله أحمد بن الشيخ عبد الله، فلما بلغ الرابعة عشرة من عمره اصطحبه عمه الشيخ أحمد بن جاسم بن جودر في رحلته التجارية السنوية إلى البصرة وفارس وكلكتا، وفي أثناء ترددهم على البصرة وفارس أخذ العلم من أفواه العلماء هناك، فدرس الفقه والحديث وعلوم القرآن بمسجد الحسن البصري بالبصرة.
ثم ارتحل إلى الساحل الغربي من فارس مع عمه، وهناك طلب العلم على يد علماء فارس المشهورين في مدينة «لاور»، حيث يسكن الساحل قبائل عربية كثيرة فتعلم اللغة العربية والنحو والفقه والحديث على المذهب الشافعي من أحد الشيوخ الذي كان يعيش فوق الجبل وحين يصعد إليه الطلبة يقومون بإمساك بعضهم البعض وصولاً إلى قمة الجبل، خوفاً أن يسقط أحدهم، وكانت رحلة اتسمت بالخطورة والصعوبة، إلا أنه كان حريصاً على العلم.
وفي رحلته إلى فارس عبر البحر خروجاً من ساحل قلالي، وكان عم الشيخ عبدالرحمن يمده بالمؤن التي تكفيه لشهور فيضع له في المحمل الخشبي بصلاً وملحاً وأرزاً وسكرا وتمراً وخبزاً.
وكذلك ارتحل إلى البصرة والتي تميزت بأنها مدينة العلم والعلماء فدرس فيها المذهب المالكي بجامع حسن البصري على يد علماء كبار، وخلال دراسته التقى بالشيخ عبدالله السالم الصباح أمير الكويت الذي حكم خلال الفترة 19501965، والذي درس أيضاً في جامع حسن البصري.
وكان الشيخ عبدالرحمن إذا رجع إلى البحرين يراجع ما أخذه على شيوخ البحرين، ومنهم الشيخ عبد اللطيف بن على آل جودر الذي تولى القضاء وحصل على 10 إجازات في العلم من الأماكن التي تعلم فيها.
متى تولى الشيخ عبدالرحمن الخطابة والإمامة في مساجد المحرق؟
في شبابه كان الشيخ عبدالرحمن الجودر يؤم المصلين في قلالي كلما ذهب لزيارة خاله وعمه، ثم أوكلت إليه الإمامة والخطابة في مسجد الشيخ عيسى بن علي بالمحرق، ثم قام بإمامة مسجد الشيخ جمعة بن علي الجودر، في فريج الجودر، وكان يحدّث فيه بعد صلاة العصر، وخاصة في شهر رمضان، كما يعقد حلقات التدريس التي يدرّس فيها أئمة المساجد علوم الفقه والحديث الشريف، فكان يبدأ دروسه صباحاً في بيت الجنوب بفريج بن خاطر، ثم ينتقل إلى الشمال للتدريس في البيت الذي يدرّس فيه في داعوس بيت الملا.
وكان الشيخ عبدالرحمن يتميز بقوة صوته الذي يصل إلى آخر المسجد حين يخطب خطبة الجمعة، وحين أرادوا استخدام ميكروفون رفض ذلك، كما تميز بطلاقة في الحديث والخطابة، فكان يخطب دون استخدام مرجع مكتوب في ورقة.
هل عمل الشيخ عبدالرحمن في التعليم؟
عمل في مدرسة تابعة للأوقاف، بوظيفته التي يتقاضى عليها أجراً زهيداً حيث كان راتبه الشهري لا يتجاوز 10 دنانير، ووصل هذا الراتب قبل وفاته إلى 40 ديناراً، لكنه كان ولعاً بالتدريس فكان يعقد حلقات التدريس خارج وظيفته الرسمية حباً في العلم ونشره، وخصص لذلك مجلساً في بيته يأتي إليه الناس من كل أنحاء البحرين كبيرهم وصغيرهم. ولم يكن مجلسه القديم إلا قطعة حصير يفرشها عند باب بيته فيجتمع إليه الرجال؛ ليحدثهم في أمور دينهم ودنياهم، ويسألونه في أمور الدين ويأتيه من يريد عقد الزواج، فيعقد له، ولا يأخذ على ذلك أجراً، ويكون الشهود من الحاضرين، وكانت العقود في تلك الفترة لا يتم توثيقها، وقد توسع مجلسه بعدما أكرمه الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة رحمه الله وطيب ثراه، فأعاد بناء بيته من جديد بعدما صار قديماً.
هل تذكر مواقف من ورعه خلال حياته؟
من المواقف التي لا تنسى أنه عُرض عليه راتب 2000 روبية لكي يؤم ويخطب في مسجد الشيخ حمد بسوق المحرق شريطة أن يقدّم لهم الخطبة قبل أن يخطب، فرفض، كما عُرض عليه القضاء في المحكمة الشرعية فرفضه بعد أن علم أنه لن يكون صاحب القرار لوجود قاضيين بجواره.
ومن كثرة ورعه وخشيته الله، أنه كان يقوم بعمل عجين الخبز في بيته ثم يذهب إلى الخباز ويعطيه أجر عمله في تسوية الخبز، حيث كان يخشى أن يكون الدقيق المستخدم لدى الخباز فيه شبهة شرعية، كما أنه رفض استلام ميراث ابنه من عمله خشية أن يكون في ذلك العمل ما يحمل شبهة.
وحين يشتري اللحم من القصاب يطلب منه أن يلفه بقطعة قماش ويضعه بالقرب من باب المحل ويذهب لقضاء بعض الأمور ثم يعود لأخذ اللحم، وحين سأله القصاب عن السبب، قال «ربما أراد فقير بعض اللحم فيجده أمامه ويأخذه» وكان يحتسب ذلك صدقة على الفقراء من ماله، على الرغم من مدخوله البسيط.
وحين طلب منه أن يستخرج جواز سفر ويلتقط صورة له، رفض ذلك لكنهم استطاعوا التقاط صورة وحيدة له دون أن يدري بأنه قد تم تصويره، واستخدمت هذه الصورة لاستخراج جواز السفر الخاص به.
هل تذكر بعضاً من أصدقائه؟
كان له أصدقاء مقربون منهم تلميذه الشيخ دعيج بن خليفة الحزر، والشيخ جاسم بن حمد البنعلي، والشيخ إبراهيم بن يوسف بوقصمول، وآخرون.
وفي إحدى رحلاته إلى الهند لعلاج الآلام التي أصابت ركبته، نصحه الطبيب بالبقاء في بيئة جافة، وكان السفر إلى الهند يستغرق 16 يوماً في المركب للذهاب والإياب، وهذا الطريق البحري إلى الهند يقتضي تغيير المركب في مرافئ الكويت، فكان يتردد على الكويت من أجل ذلك، فيقيم فيها أسبوعاً، ثم يبحر نحو الهند.
وفي واحدة من أسفاره إلى الكويت شاهد مجموعة من الشباب يجلسون في مقهى بالسوق، فتوجه إليهم وبدأ بالتعرف عليهم ثم نصحهم بالحسنى وكان له أسلوبه الذي أقنع به هؤلاء الشباب حتى إنهم دعوه إلى بيوتهم وألزموه أن يستضيفوه عند الحضور إلى الكويت في المرات القادمة، وعندما عاد من الهند قاموا بحجز تذكرة سفر له بالطائرة للبحرين بدلاً من السفينة.
ماذا حدث في أواخر أيامه وقبل وفاته؟
في أواخر أيامه قرر التوقف عن الخطابة وظل في البيت 15 سنة لم يخرج منه إلى أن توفي مساء يوم الاثنين من عام 1403هـ الموافق فبراير من 1983، ودفن بمقبرة المحرق، صباح اليوم التالي.