في نهاية أغسطس، بينما تحتفل تركيا بذكرى معركة الاستقلال، كانت مصانع إسطنبول وأنقرة تضج بالحركة؛ خطوط الإنتاج لم تتوقف، وقاعات المؤتمرات احتضنت وفوداً من أكثر من 30 صحفياً وخبيراً من 23 دولة، لحضور ندوة بعنوان «من الجذور إلى الآفاق: قصة صعود الصناعات الدفاعية التركية».
هذا المشهد ليس مجرد استعراض للتقنيات الحديثة، بل نافذة على مشروع وطني طموح يعيد رسم مكانة تركيا في المعادلة الإقليمية والدولية، من الاكتفاء الدفاعي إلى النفوذ العالمي.
بدأت قصة الصناعات الدفاعية التركية من رحم الأزمات. وتحديداً بعد حرب قبرص عام 1974، عندما واجهت أنقرة حظراً صارماً على استيراد السلاح. ومن هذه الأزمة انطلقت شركات مثل أسيلسان وروكيتسان، بدعم شعبي وجمع تبرعات من المواطنين، لتصبح الصناعة الدفاعية رمزاً للقدرة الوطنية والاستقلالية الاستراتيجية.
هذه المرحلة أسست لرؤية واضحة: الاعتماد على الذات كخيار أمني وسياسي، وإيجاد حلول وطنية أمام القيود الدولية.
اليوم، تركيا لا تصنع الأسلحة فحسب، بل تبني القدرات، وتنسج الشراكات الاستراتيجية:
الطائرات المسيّرة التركية أثبتت جدارتها في ساحات النزاع مثل ليبيا، أذربيجان، وأوكرانيا.
التعاون الدفاعي مع دول صديقة يعزز النفوذ السياسي، ويصنع توازنات جديدة في الإقليم.
مشاريع مثل المقاتلة المسيّرة قزل إلما والسفينة المسلحة الأولى في العالم تؤكد أن تركيا لم تعد تلاحق التطور، بل ترسم القواعد وتحدد المعايير.
ويضع هذا التحول الصناعات الدفاعية التركية في قلب الديناميات الإقليمية، ويمنح أنقرة أدوات تأثير على صعيد السياسة الخارجية والتحالفات الاستراتيجية.
قبل الألفية، كانت تركيا تعتمد على الخارج بنسبة 80% في تسليحها، بعدد محدود من الشركات ومشاريع محددة، وعائدات لا تتجاوز المليار دولار سنوياً. اليوم، تمتلك البلاد أكثر من 100 شركة متخصصة في الصناعات الدفاعية، ويبلغ حجم الصادرات السنوية عدة مليارات من الدولارات، مع مشاريع عالية التقنية في الفضاء، الطيران، والبحرية.
هذا النمو ليس مجرد تطور صناعي، بل تحوّل استراتيجي: من دولة مستوردة للسلاح إلى لاعب مؤثر في صناعة القرار العسكري والسياسي الإقليمي والدولي.
لقد أثبتت تركيا أن الاستثمار في الصناعات الدفاعية لا يقتصر على تعزيز القدرة العسكرية، بل يمتد إلى بناء النفوذ السياسي والاقتصادي. ومن خلال الجمع بين الرؤية الوطنية، الابتكار التكنولوجي، والشراكات الدولية، تواصل أنقرة كتابة فصل جديد في تاريخها الاستراتيجي، مؤكدة أن القوة ليست فقط في السلاح، بل في القدرة على توظيفه لتحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى.