د. سيما حقيقي

يمتدُّ عمقُ الإنسان من صمته الداخلي، من تلك المساحات الهادئة التي تُخفي أكثر ممّا تُظهر، حيث تتجلّى حكايته، ويتحوّل الصمتُ إلى شكلٍ آخر من أشكال النجاة.

فكلُّ واحدٍ منّا يحمل في أعماقه غرفةً صغيرة، لا نفتح بابها إلا حين تشتد الحقيقة أو يزدحم القلب بما لم يعد يحتمله.

تلك الغرفة ليست سرّاً لأننا نخفيه، بل لأنها تنبض بصدقٍ يفوق قدرتنا على المواجهة.

إنها المكان الذي تختبئ فيه أسئلتنا الأولى، وذكرياتٌ خفنا منها يومًا، وجروحٌ ظننا أنّها اندملت، لكنها مازالت ترتجف كلما مرّ عليها طيفُ لحظةٍ تشبهها.

وهناك داخل تلك الغرفة، تتشكل الحياة التي لا يراها أحد، حياة نعيشها بصمت، نسأل فيها أنفسنا الأسئلة التي لا نجرؤ على مشاركتها، ونواجه تفاصيل لا نرغب أن تُرى.

ومع مرور الوقت، يتغير شكل الصمت. تتغير لغته. وتتحول مساحته. فما كان ثقيلاً يصبح أعمق، وما كان مؤلمًا يصبح قابلًا للفهم.

وتبدأ الأشياء التي كنا نخاف مواجهتها في الانطفاء تدريجًا، وتتحول إلى تعريف جديد للذات.

نبدو هادئين… ولا أحد يدرك أن الهدوء أحيانًا معركة صغيرة نحاول فيها تنظيم الفوضى التي في الداخل. ونبدو صامتين… ولا أحد يرى أن الصمت ليس انسحاباً من العالم، بل محاولة لمسك القلب كي لا ينفلت منه الكلام ويفضح الحكاية التي نحرص على عدم روايتها.

لا أحد يلتفت إلى حجم ما نخفيه. ولا أحد يسمع الحوار الداخلي الذي نخوضه بلا صوت.

فهناك أسئلة لا تحتاج إجابة بقدر ما تحتاج شجاعة الإصغاء. وهناك مشاعر لا تحتاج شرحًا بقدر ما تحتاج وقتًا لتستقر.

وفي هذا كله، يتشكل نضج لا نراه وقت حدوثه، لكن نعرف أثره لاحقًا، حين نتغير دون إعلان.

فليس كلُّ هادئٍ مرتاح البال، ولا كلُّ صامتٍ غير مبالٍ. فخلف بعض الصمت ألفُ كلمةٍ لم تنطق، وألفُ شعورٍ لم ينجُ من الارتجاف.

والقلب حين يتعب لا يبحث عمّن يسمعه، بل عمّن يفهم صمته، ويقرأ ما يحدث خلف ذلك الهدوء الظاهر.

الصمت، في جوهره، ليس إغلاقًا للفم، بل إغلاق لجروح بحاجة إلى بعض السكينة.

هو الإمساك بالقلب، لا باللسان. هو تلك اللحظة التي نعيد فيها ترتيب أرواحنا قبل أن نواجه العالم بما نظنه حقيقتنا، وبما يمكن للقلب احتماله دون تكسّر المفردات.

نحن نعيش حياتين في وقتٍ واحد: حياة نمشي فيها بين الناس بصلابة، وأخرى نتعثّر فيها ألف مرة دون أن يرانا أحد.

لكن تلك الحياة الخفيّة برغم قسوتها هي التي تصنعنا، وتربّي فينا الصبر، وتُهذّب حدسنا، وتعمّق نظرتنا للأشياء.

ومع كل عودة إلى الغرفة الداخلية، نرتب ما تبعثر، ونمسح غبار المفاجآت، ونرمم أجزاء لم نكن نتوقع أنها ستنكسر.

وهناك نتعلم أن نحزن بصمت ناضج، وأن نقف على أطراف الألم دون ضجيج ولا إعلان.

قد لا يعرف أحد تفاصيل الحكاية، لكن أثرها يظهر في نظرة، وفي طريقة صمتنا، وفي شكل حضورنا.

فالإنسان لا يُستقبل بما يرويه، بل بما يُخفيه بين سطور الكلام.

وحين نصغي لذلك الصمت بصفاء، نكتشف تدريجاً أن تلك الغرفة التي نخاف الاقتراب منها هي في الحقيقة بوّابة العودة إلينا، وأن ما كنا نعتبره وجعاً غير قابل للمس هو ما قادنا إلى النضج الأول للقلب.

ومن هذه النقطة تحديداً،

حين نصل إلى المصالحة مع الداخل ولو بقدر ضئيل تبدأ الحقيقة في الانكشاف بصورة أعمق:

هناك، في أعمق نقطة من الصمت، يتوقف العالم عنا قليلاً، فنرى أنفسنا كما لم نجرؤ أن نراها من قبل:

لا أقوى ولا أضعف، بل حقيقة كاملة لا تحتاج تبريراً.

وفي تلك اللحظة تحديداً، يصبح الصمت ليس انسحاباً، بل إعلاناً خفياً بأن الأرواح لا تُشفى بالضجيج، وأن النجاة لا تكون بمن يسمعنا، بل بمن يفهم صمتنا.

شاركها.