خالد الرويعي
طوال سنوات مضت. كانت لدي رغبة ملحّة في كتابة أخرى عن المسرح في البحرين. رغبة في اكتشاف الأسباب والمراحل، فلم يكن مفهوماً بالنسبة لي أن تمضي قافلة الثقافة والفنون من دون مراجعة أسباب النشوء، من دون فتح الشبابيك التي ظلت عالقة في نضالات اختزلت في سياق أدبي أو سياسي أو اجتماعي وكأنما قدر الفنون والمسرح تحديداً أن تظل في سياقها الترفيهي، أو هكذا ما يظنه غالبية المجتمع حتى المثقفين منهم.
تأتي رغبة الكتابة هذه حول مائة عام من المسرح في البحرين بدافع الإيمان العميق بأن المسرح، بوصفه مرآة للوعي الجمعي، وحقلاً لتجليات الهوية الثقافية، لم يحظ بالقدر الكافي من التأريخ المنهجي المتأمل في تطوره وتحولاته. إن المسرح في البحرين، الممتد منذ مطلع القرن العشرين، لم يكن مجرد نشاط ترفيهي أو تعليمي، بل كان مشروعاً ثقافياً ساهم في تشكيل الوعي الوطني والاجتماعي، وتحفيز التحولات الفكرية والسياسية في المجتمع.
ورغم إيماني العميق أن الفن هو الذي ينتج الوعي لإعطاء الفضل بالدرجة الأولى لكل ما هو فني إلا أن التجربة حمالة أوجه ولا ضير في ذلك. وها أنا ذا أكتب عن مائة عام من المسرح في البحرين لأنني أرى أن هذا المسرح، رغم حداثة تجربته النسبية مقارنة بالتقاليد المسرحية الغربية، أنتج نماذج فكرية وفنية فريدة تستحق أن تُقرأ ضمن سياقها المحلي والخليجي والعربي. كما أنني أطمح إلى استعادة التجارب المنسية، وتفكيك المسارات الكبرى التي عبرها المسرح البحريني: من المسرح المدرسي، إلى المسرح الأهلـي، إلى المسرح المؤسسي، فالمسرح الطليعي.
فأنا هنا لست موثقاً. رغم إيماني أن التوثيق لهذه المسيرة لا يعني فقط تسجيل الأحداث والوقائع، بل تفكيك الأسئلة التي طرحتها التجربة المسرحية على نفسها وعلى مجتمعها: أسئلة الهوية، الحرية، التعبير، والحداثة. كذلك، تمثل هذه الكتابة محاولة لإنصاف الأجيال التي أسست، وابتكرت، وجابهت التحديات الاجتماعية والسياسية بثقافة المسرح.
وبالتالي، فإن الكتابة عن مائة عام من المسرح في البحرين ليست مجرد احتفاء بزمن مضى، بل استدعاء لروح المغامرة الجمالية والفكرية التي لا تزال تلهمنا في سعينا نحو مسرحٍ أكثر انطلاقاً، وأكثر قدرة على التعبير عن إنسان البحرين وهويته المتعددة.
ففي كل مسرحية شاهدتها أو شاركت في صناعتها، كنت أشعر أنني أواصل خيطاً طويلاً بدأه آخرون قبلي. خيطٌ من الحلم، والشغف، والتجريب. من هنا، ولدت رغبتي العميقة في أن أكتب عن مائة عام من المسرح في البحرين: لا كتوثيقٍ بارد للتواريخ والأحداث، بل كمحاولة لفهم الرحلة الإنسانية التي خاضها المسرحيون الأوائل، وتلك التي لاتزال تُخاض حتى يومنا هذا.
أكتب لأنني أدرك أن المسرح في البحرين لم يكن يوماً هامشاً رغم محاولات تهميشه المستمرة، بل كان دائماً في صلب حركة المجتمع، يتنفس تحوّلاته، وينحت أسئلته على الخشبة. أكتب لأنني مؤمن بأن لكل عرض مسرحي، مهما كان بسيطاً أو مؤقتاً، أثراً يتراكم في ذاكرة الثقافة، ويدفعنا نحو مساءلة أنفسنا: من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟
أكتب عن هذا المسرح لأنني أؤمن أن مائة عام ليست مجرد امتداد زمني، بل هي رحلة بحث عن المعنى، خاضها فتيان المدارس، ورواد النوادي الثقافية، والفرق الأهلية، ثم المحترفون، كلٌ بطريقته، وكلٌ بشغفه، في وجه التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية.
بهذه الكتابة، أطمح ألا أستعرض فقط ما حدث، بل أن أضيء عتمة باردة، أن أسمع الأصوات التي اختفت، وأن أقدم قراءة تحاول أن ترى المسرح في البحرين لا كمنتج فني فحسب، بل كجزء حي من الروح البحرينية، في مقاومتها للأفول، وفي تشبثها بالحلم.
فليست الحكاية هنا مجرد تأريخ لعروضٍ مسرحية أو فرقٍ تشكّلت، بل هي سيرةُ وطنٍ اختار أن يُعبّر عن نفسه عبر الخشبة، وأن يرى ذاته عبر الممثل، ونبرة الصوت في ذروة الحدث. فالمسرح في البحرين لم يكن طيفًا عابرًا في فضاء الثقافة، بل كان على امتداد قرنٍ كامل مرآةً ناطقة لتحولات المجتمع، ودفتراً سرّياً دوّن فيه الإنسان البحريني آماله، وهمومه، وهواجسه.
أزعم ذلك لأني على الأقل عايشت من حولي وقرأت هذه الدفاتر السرية المحشورة في صدور من كتبها. كيف قالت في حركة يد ممثل ما لم يقله مقال صحافي أو خطاب منمق روج للمستقبل باعتباره منقذاً ونسي الحاضر باعتباره فخاً.
البدايات
(19252025) هي المائة عام على المسرح في البحرين، وليست كل الدول يشاء حظها أن يكون لها ذلك. 100 عام ليست بالقليلة. ففي بدايات المسرح يحدث أن تكون رعاية تلك العروض دائماً باسم صاحب العظمة الشيخ حمد بن عيسى (الأول) طيب الله ثراه. ويحدث في هذا العام أن يكون المسرح في عهد جلالة الملك حمد بن عيسى (الثاني) حفظه الله. فالبذرة الأولى بدأت في أرضٍ لم تكن تعرف خشبة المسرح بعد، بل كانت تعرف الكلمة، والعين المتطلعة إلى أفقٍ جديد. لتبدأ بذلك رحلةٌ خجولة لكنها مشحونة بالأمل. التي رغم بساطتها، زرعت في التربة الثقافية جذوراً عميقة.
فحينما ارتفعت الستارة للمرة الأولى وهذا بالتأكيد تعبير مجازي في مدرسة الهداية الخليفية عام 1925، لم يكن المشهد مجرد بداية لعروض مدرسية، بل لحظة ولادة وعيٍ قيل عنه أنه مسرحي وسط زمن عربيٍ متقلب، يتهجّى فيه العقل العربي معاني الهوية، والسلطة، والعدل. اختار معلمو المدرسة وهم نُخب تربوية مشبعة بأفكار النهضة والإصلاح نصاً لافتًا لمسرحيتهم الأولى (قاضي الحاكم بأمر الله). والتي قد يكون الاختيار بحد ذاته فعلاً مقصوداً ولا يخلو من دلالة، ولا يخلو من جرأة. فلا أحد يعرف من كتب النص رغم ترجيح د. محمد السلمان إلى أن تكون مقتبسة من المؤلف المصري إبراهيم رمزي (1) ولكني أميل إلى أنها قصيدة صيغت بشكل خطابي مسرحي قام بتأديتها طلاب المدرسة.
ففي زمن ما بعد سقوط الخلافة العثمانية، ووسط صعود المد القومي العربي، كانت المجتمعات تبحث عن رموز تؤسس خطابها الجديد: خطاب التحرر من الاستبداد، والعودة إلى جوهر العدالة. ومن هنا، كان التاريخ الإسلامي مسرحاً زمنياً خصباً لتمثيل هذا الصراع، في قالب رمزي يحاكي الحاضر من خلال الماضي. فالحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي المعروف بتقلباته السياسية والدينية مثّل نموذجاً معقداً للسلطة الاستعمارية المطلقة، بينما جاء “القاضي” كشخصية متخيلة تسير فوق حبل مشدود بين سلطة الحاكم ومقتضيات العدالة.
كان المسرح هنا أداة تربوية فكرية، أكثر من كونه نشاطًا ترفيهيًا. وقد أدرك المعلمون في الهداية الخليفية أن الخشبة قادرة على أن تحرّك الساكن في وعي الطلبة، فصاغوا مشهداً رمزياً يُبرز التوتر الأبدي بين الضمير والسلطة، بين الفقيه الذي يُفتي بما يُرضي السلطان، والقاضي الذي يزن الأمور بميزان العدل.
فلم يكن المسرح آنذاك فضاءً عاماً بالمعنى الكامل، لكنه كان نافذة صغيرة تُطل على أسئلة كبيرة. كانت غالبية الدول العربية إما تحت الانتداب والاستعمار البريطاني أو الاستعمار الفرنسي، وكان التحديث التعليمي يسير بخطى مترددة، لكن التعليم الوطني بدأ يتشكل بهدوء، محمولاً على أكتاف رجال عرفوا أن الإصلاح يبدأ من الوعي، وأن الفن حين يُستثمر توظيفه قادر على غرس قيم لا تستطيع المناهج وحدها إيصالها.
عثمان الحوراني.. الأب الروحي للمسرح البحريني
بحسب الدكتور عبدالحميد المحادين ومبارك الخاطر لا يذكر أحد بالضبط متى وصل عثمان الحوراني إلى البحرين. ولكن المرجح أنه ما بين 1925 و1926، لكني أميل إلى وصوله عام 1925 وهو الذي كان وراء تقديم عرض مسرحية “قاضي الحاكم بأمر الله”. فلم يعرف في تلك الحقبة قبل وصوله أن اهتم غيره بالمسرح حتى نقل النشاط المسرحي إلى مدرسة البنات آنذاك.
فعثمان الحوراني بحسب مبارك الخاطر بعد نضاله في الثورة السورية ضد الاحتلال الفرنسي وخروجه من سوريا مضطراً إلى العراق ومنها إلى البحرين. مارس نشاطه الثقافي والأدبي والاجتماعي داخل إطار التعليم وخارجه، حتى أصبح تأثيره الفكري والتربوي والسياسي والثقافي في مجتمع البحرين ذا وزن كبير، حتى تولى إدارة مدرسة الهداية، ثم مديراً لمعارف البحرين عام 1928، وكان من أهمها إرسال أول بعثة خليجية رسمية عام 1928 إلى جامعة بيروت الأمريكية، كما طوّر المسرح المدرسي فعرضت عدة مسرحيات في المسرح التاريخي، وكان وراء نشأة أول تعليم حديث للفتاة في البحرين عام 1928م. بالإضافة لتأسيسه النادي الخليفي الرياضي عام 1928.
فلقد كان اختيار مسرحية “قاضي الحاكم بأمر الله” حينها، بمثابة لحظة وعي مبكر في البحرين، لحظة قالت فيها النخبة التعليمية كلمتها الأولى، ليس فقط في ميدان التعليم، بل في فضاء الثقافة الناشئة. لحظة أدركت فيها تلك النخب أن المسرح يمكن أن يكون محكمة موازية، يُسائل من خلالها التاريخ والواقع معاً.
وبهذا وُلد المسرح البحريني في رحم التحولات العربية الكبرى، وكان من البداية مشتبكاً مع قضايا الإنسان والهوية والعدالة. ولم يكد يمضي وقت طويل حتى تنامت البذرة الأولى، فتوالت العروض المدرسية في عام 1927 بمسرحيتي “وفود الغرب على كسرى” و”امرؤ القيس”، ثم عام 1928 بمسرحيتي “أبو القاسم الطنبوري” و”ثعلبة”، مؤذنةً بولادة شغف متنامٍ بالفن التمثيلي.
(1) ملامح تاريخية من المسرح البحريني د. محمد حميد السلمان.
الصور:
حضرة صاحب العظمة الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة لدى حضوره حفل تخرج الطلبة الذي يشمل العروض المسرحية.
الشاعر إبراهيم العريض
الشاعر عبدالرحمن المعاودة
الاستاذ عثمان الحوراني متوسطاً زملاءه.