“الوطن” تستعرض سيرة الشيخ والقاضي عبدالله الفضالة مع ابنه أحمد
أيمن شكل تصوير محمد عز
مات أبوه وهو في بطن أمه، وقضى طفولته عاملاً في مهن الشقاء، وأحب العلم فذهب به العشق إلى الأحساء، وعاد ليرتحل مرة أخرى إلى الأزهر الشريف، وفي مصر خشي على نفسه من الفتنة فتزوج وأنجب ابنيه هناك، وعاد للبحرين معلماً وإماماً وخطيباً للمساجد، ثم عين ضمن أوائل قضاة المحاكم الشرعية وترقى إلى رئاسة المحاكم الكبرى الشرعية.
إنه الشيخ عبدالله الفضالة الإمام والخطيب والقاضي والمعلم، الذي رحل عن دنيانا وترك سيرته ليرويها لـ”الوطن” ابنه أحمد الفضالة.
ولد الشيخ عبدالله بن ناصر الفضالة عام 1918 ولم يلحق بوالده الذي توفي أثناء حمل أمه فيه فعاش يتيماً مع أخت شقيقة “هيا” فنشأ في بيت متواضع في فريج “بن مطر” بالمحرق بجوار بيت الشيخ علي آل خليفة وبيت سلمان بن مطر تاجر اللؤلؤ المشهور، وهذا البيت ما زال موجوداً إلى اليوم وقفاً لعائلة الفضالة وتحول للخدمات العامة لأهالي المنطقة.
وكانت أمه من عائلة العوضي وتحملت تربية الشيخ عبدالله وأخته مستعينة بالمساعدات التي تأتيها من عوائل المنطقة من آل خليفة والأقارب الميسورين، حتى بلغ الشيخ الفضالة أشده وبدأ مساعدتها في إيجاد مدخول للأسرة.
ومثل أقرانه في هذا الوقت درس لدى “المطوع” وحفظ ما تيسر له من القرآن الكريم والقليل من العلم الشرعي ثم استكمل الدراسة الابتدائية في المدرسة “الأهلية” فتعلم القراءة والكتابة والنحو، ولم يكن قريناً لأطفال عمره في اللعب واللهو، فقد اضطره اليتم أن يعمل في عمر الثامنة في مهن كثيرة بسبب حالة العائلة بعد وفاة معيلها واضطر للعمل مع البنائين ودخل البحر لصيد السمك وغاص لصيد اللؤلؤ شاباً، وتعرض يوماً أن كان في الخامسة عشر لعاصفة في البحر وغرقت سفينتهم، ووجد قطعة خشب تعلق فيها، وكان يسمع زملاءه يسألون عنه ويقولون “الولد الأصغر أظنه غرق” لكن لم يتمكن من توصيل صوته إليهم إلا أن إرادة الله أبت أن يغرق أو يموت في تلك الحادثة.
ويذكر الشيخ الفضالة لابنه أحمد واقعة فريدة حدثت بالمحرق حيث كان هناك مسجد يدعى مسجد “بن عجلان” في منطقة سوق القيصرية وبجواره محل “عمارة الدوي”، وفي إحدى الليالي وصل الملك عبدالعزيز آل سعود إلى سواحل البحرين قادماً في زيارة لأميرها، فوصلت السفينة التي تقله إلى شاطئ قريب من سوق القيصرية وكان الوقت متأخراً ولا توجد وسائل مواصلات، فما كان هناك خيار أمام الملك عبدالعزيز سوى المبيت في مسجد بن عجلان حتى صباح اليوم التالي، وعندما بلغ حاكم البحرين الخبر جاءه واستقبله.
وتزوج الشيخ بزوجته الأولى وأنجب منها محمد ومنيرة، لكن لم يحدث اتفاق بينهما فانفصل عنها قبل أن يذهب إلى الأحساء، فقد كان الشيخ عبدالله الفضالة يحب العلم منذ الصغر، فقرر السفر إلى الأحساء التي كانت تضم مدارس علمية لشيوخ يطلق على كل منها “الرباط” حيث لكل عالم وشيخ رباطه في هذه البلدة التي عرفت بالعلم الشرعي.
واحتضن “رباط” الشيخ محمد أبوبكر، الشيخ الفضالة منذ أن وطأت قدماه الأحساء ضمن مجموعة من الطلبة، وظل هناك 4 سنوات دراسة غير نظامية إذ لم يكن قد تعلم في البحرين سوى القراءة والكتابة، لكن هذه السنوات الأربع كانت كافية لكي ينهل من “رباط” علم الشيخ محمد أبو بكر الذي كان يتبع المذهب المالكي، وخلال السنوات الأربع التي قضاها هناك استطاع أن يذهب إلى الحج، حيث كانوا يرتحلون إلى مكة المكرمة بالحافلات القديمة التي تصاب بالأعطال الكثيرة أثناء الرحلة، لكنه أتم الحج وعاد ليكمل تعليمه.
وبعد الدراسة لأربع سنوات في الأحساء، عاد الشيخ عبدالله الفضالة للبحرين ليجد أمامه فرصة أكبر لمواصلة العلم الذي أحبه، فقد أعلنت حكومة البحرين وقتها إرسال أول بعثة بحرينية للأزهر الشريف، ووجد الوجيه عبدالرحمن الزياني في الفضالة الشخص المناسب لكي يكون عضواً بتلك البعثة وكان الزياني يدعم العلم والعلماء في ذاك الوقت، وكان له أخ يدعى عبدالوهاب الزياني ناضل ضد الاحتلال الإنجليزي وتم نفيه خارج البحرين.
وبدأت رحلة العلم الثانية غرباً إلى الأزهر الشريف حيث كانت الصحبة مكونة من الشيخ يوسف الصديقي وأحمد المطوع ومحمد السعد وراشد البوعينين والذي انتقل فيما بعد للمنطقة الشرقية، ولعدم حصوله على الشهادة الثانوية من البحرين تم اختبار الشيخ الفضالة لدراسة الثانوية الأزهرية لكن قُبل في العالمية الأزهرية مباشرة، واستمر في الدراسة الأزهرية منذ عام 1954 1958.
وخلال تواجد الشيخ الفضالة في مصر شهد فيها المدينة الجميلة بمفاتنها العديدة والمنفتحة على العالم ولذلك خشي على نفسه من الفتنة وهو الشاب الأعزب المغترب في بلد بها ما يسلب العقل، فاتخذ قراراً بالبحث عن زوجة له من مصر كي يعصم نفسه، فما كان من زملاء البعثة إلا أن اعترضوا على قراره خشية أن يتسبب هذا القرار في عودة الجميع للبحرين فحاولوا إثناءه عن الزواج، لكنه طمأنهم بأنه قد أرسل خطاباً للمسؤولين في الشؤون الإسلامية بالبحرين يستأذنهم أن يتزوج من مصر.
ويقول الشيخ الفضالة: “جهزت خطاب الاستقالة من البعثة في حال رفضوا طلبي الذي أرسلته، لكن يشاء الله أن تأتي الموافقة ومعها زيادة في المكافأة المرصودة له ضمن البعثة”.
وبدأ الشيخ الفضالة رحلة البحث عن رفيقة دربه في الحياة الزوجية والتي تعينه على استكمال دراسته الأزهرية، وكان يسكن في عمارة بمنطقة الأزهر وله جارة مصرية استعان بها فأرشدته إلى أسرة مصرية مكونة من بنات يتيمات قد ماتت أمهن وتركتهن مع أبيهن الذي كان حريصاً على ألا تبتعد واحدة عنه، وقد رفض تزويج ابنته من شاب مصري يسكن في منطقة “شبرا” التي تبعد عن الحسين بمسافة اعتبرها نائية، وقال “أنا أودي بنتي شبرا؟… مستحيل” لكن الله كان يدبر لابنته ما هو أبعد من شبرا بآلاف الكيلومترات، وحين تقدم الشيخ الفضالة لوالد زوجته وأبلغه بأنه يدرس في الأزهر ويسكن قريباً من منزلهم في الحسين، وافق على تزويجه ابنته على مضض.
ويتذكر الشيخ الفضالة واقعة حدثت قبل زواجه، حين وصله من البحرين مبلغ “المهر” فوضعه في محفظة نقوده داخل جيب القفطان وتوجه ليتوضأ في الأزهر فخلع القفطان وتركه معلقاً ثم غادر إلى المسجد تاركاً القفطان والمهر معلقاً أمام المتوضئين، وحين أدرك أنه نسي القفطان في الميضأة، تيقن أن الزواجة لن تتم وقال في نفسه “ضاعت الزواجة وراحت عليك العروسة يا عبدالله” ، فعاد مهرولاً إلى هناك ليجد القفطان معلقاً في مكانه ورجلين يتوضآن ويعتقد كل منهما أن الرداء المعلق لأحدهما.
وحمد الفضالة ربه على عدم ضياع المهر وتمت الزيجة التي كان يعتقد أنها ضاعت، وأنجب من زوجته أحمدَ وناصراً في مصر، حتى انتهى من الدراسة وقرر العودة إلى البحرين فلم يجد من والدها ممانعة بعد أن اطمأن على ابنته في كنف الشيخ البحريني.
وبعد نيله الشهادة العالمية من الأزهر الشريف عاد الشيخ الفضالة إلى البحرين في عام 1958 والتحق بسلك التعليم وبدأ يدرس التربية الإسلامية في مدرسة المحرق الشمالية الابتدائية “عمر بن الخطاب حالياً” لفترة لم تتجاوز سنتين، لينتقل بعدها إلى المعهد الديني حتى عام 1971، حين صدر المرسوم الأميري بإنشاء المحاكم الشرعية، فكان من أوائل القضاة المعينين في القضاء الشرعي، وتدرج في القضاء بدءاً من وكيل ثم قاضٍ ورئيس للمحكمة الشرعية وكان آخر منصب تولاه هو رئيس المحاكم الكبرى الشرعية.
وإلى جانب التدريس والقضاء فقد كان الشيخ الفضالة خطيباً لمسجد الشيخ حمد بالمحرق والذي كان أقدم مسجد تقام فيه صلاة الجمعة، ثم انتقل إلى المسجد الجنوبي في مدينة عيسى بعد تدشينه مع افتتاح المدينة الجديدة آنذاك، ولم يتعلم الشيخ الفضالة قيادة السيارات ولم يملك واحدة، فكان يذهب إلى المسجد بسيارة تاكسي اتفق مع صاحبها على أن يرافقه كل جمعة من المحرق إلى مدينة عيسى والعودة.
وعندما بنى المغفور له محمد يوسف الغاوي مسجد “الغاوي” في شمال غرب المحرق وكانت تلك المنطقة جديدة تم إنشاؤها بعد فريج العمامرة، جاء الشيخ الفضالة ليكون أول إمام للمسجد الجديد الذي تميز ببنائه الفريد لكونه أول مسجد تكسى جدرانه بالسيراميك، لكن الأكثر تفرداً في هذا المسجد هو كونه أول مسجد تدخل إليه مكيفات الهواء في البحرين، حتى أن المصلين اختلفوا فيما بينهم ورأوا أن المكيفات بدعة لا يجب أن توضع في المساجد!.
وتميز أول مؤذن لمسجد الغاوي بصوته القوي حتى أن أهل المنطقة كانوا يطلقون عليه “الصاروخ” لكن علاقة صداقة قوية نشأت بينه والإمام الشيخ الفضالة واستمرت هذه العلاقة الطيبة مع المؤذن الكفيف الذي جاء خلفاً لـ”الصاروخ”.
ويتذكر أحمد الفضالة لوالده شخصيته القوية في المسجد، حيث اتفق الأهالي على أن يتم تأخير إقامة صلاة المغرب لعشرين دقيقة في شهر رمضان لإتاحة الفرصة أمام المصلين للإفطار ومن ثم العودة للصلاة، فوافقهم الشيخ، وجاء في الموعد المتفق عليه ليجد أحدهم يصلي بمجموعة إماماً بدلاً منه، فغضب منهم وقال لهم: ألم نتفق على تأخير الإقامة؟.
وفي أواخر أيامه مرض الشيخ الفضالة وأصيب بداء القلب وقضى آخر سنتين من عمره راقداً على سرير المرض، لكنه كان يؤمن بأن من يحافظ على الصلاة لا يصاب بالخرف، فظل حتى آخر لحظة من حياته محتفظاً بذاكرة حاضرة وبذكرياته التي سردها لابنيه قبل وفاته، ورحل عن الدنيا في 7 سبتمبر يوم الجمعة 1990 تاركاً خلفه تاريخاً من العمل الشرعي والقضائي وذكريات جميلة مع من عاصروه.