في حوارية فكرية عميقة تلتقي فيها فلسفتان متباينتان في الجوهر ومتكاملتان في الممارسة، يجسّد الدكتور علي فخرو والدكتور عبدالله الحواج أبرز المحطات الفاصلة في مسيرة التعليم العالي البحريني. فبينما يدافع فخرو بحزم عن التعليم بوصفه حقاً وطنياً ومسؤولية حكومية، يصرّ الحواج على أن الاستثمار في التعليم الأهلي يمثل رافعة تنموية وواجباً وطنياً، ومن هذا الثنائي تشكّلت ملامح نظام تعليمي بحريني متميز.

يقف فخرو، الوزير السابق، مدافعاً عن رؤيته التي تؤكد أن “الجامعة بيت للعلم لا مؤسسة تجارية”، محذراً من تغوّل النزعة التجارية على القطاع التعليمي، مؤكداً ضرورة الحفاظ على النموذج الاجتماعي القائم على الرعاية الحكومية الشاملة. في المقابل، يرى الحواج، رائد التعليم الأهلي، أن “كل دينار يُستثمر في الإنسان هو أعظم استثمار يمكن أن يقدمه الوطن لنفسه”، معتبراً أن التعليم الجيد يمثل أقوى استثمار في الأمن الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

وفي ندوة نظمها الدكتور محمد الكويتي تحت عنوان “الاستثمار في التعليم العالي ودور القطاع الأهلي”، تَجَسّد هذا الحوار الحي بين الرؤيتين، وسط حضور أكاديمي ونخبوي متميز. حيث استعرض الكويتي السيرة الثرية للحواج الذي جمع بين الرؤية الأكاديمية والإدارة الواقعية، من جامعة البحرين إلى تأسيس الجمعية البحرينية للأكاديميين عام 2001، وصولاً إلى تأسيس الجامعة الأهلية كأول جامعة خاصة في البحرين.

انطلق الحواج في حديثه من الإيمان الراسخ بأن “قضية الاستثمار في التعليم كانت منذ بداياتي أعظم قضية وطنية”، مؤكداً أن “الأمن الحقيقي لا يتحقق بالجيوش، بل بالعقول التي تبني الأوطان”. واستذكر محاوراته مع فخرو حين كان وزيراً للتربية والتعليم، مشيراً إلى أن تلك النقاشات الفكرية مهّدت لولادة فهم وطني جديد يرى في التعليم الأهلي شريكاً لا خصماً للتعليم الحكومي.

وعن فلسفته في تأسيس الجامعة الأهلية، أوضح الحواج أنها جاءت “لسدّ فراغ في الوطن”، مؤكداً أنهم لم يكونوا “يبحثون عن الربح، بل عن سدّ حاجة وطنية”. وأشار إلى أن الجامعة اختارت منذ تأسيسها أن تكون مؤسسة غير ربحية، مع الفصل بين القرار الأكاديمي والإداري، مستلهماً نماذج عالمية كالجامعة الأمريكية في بيروت وجامعة ديوك الأمريكية.

ومن التجارب العملية التي استشهد بها، موقفه كأستاذ للرياضيات حين كان يربط الدروس النظرية بالحياة العملية: “كنت أشرح لطلابي الفارق بين علبة الفاصوليا وعلبة الكافيار لأبيّن لهم أن الأشكال الرياضية ليست مجردة بل حية في تفاصيل حياتنا اليومية”.

وتحدث الحواج عن التحديات التي واجهت فكرته في بداياتها، وكيف اصطدم بتحفّظات فخرو الذي استدعاه إلى مكتبه قائلاً: “يا عبدالله، الله يهديك، الحكومة تتحمّل أعباء كثيرة، لماذا تريدون إنشاء جامعة أخرى؟”. وأوضح أن الإصرار والرؤية الواضحة مهّدا الطريق لتحقيق الحلم، خاصة مع دعم ميثاق العمل الوطني الذي شجّع إنشاء الجامعات الأهلية والخاصة.

وعن الإنجازات، أشار إلى أن الجامعة الأهلية أصبحت ضمن أفضل سبع عشرة جامعة عربية وفق تصنيف “تايمز” العالمي، وحققت المركز العاشر عالمياً في مؤشر جودة التعليم ضمن أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. معرباً عن طموحه لتحويل التعليم العالي إلى رافد اقتصادي حقيقي، حيث يرى أن “استقطاب ألف طالب دولي فقط في كل جامعة بحرينية سيضيف أكثر من ملياري دينار إلى الاقتصاد الوطني”.

وفي رؤيته المستقبلية، دعا الحواج إلى تحويل البحرين إلى مركز إقليمي للتعليم العالي عبر جذب الطلبة الدوليين، وتعزيز الشراكة بين الجامعات الحكومية والأهلية، وتطوير البيئة الجامعية والخدمات الطلابية. مؤكداً أن “الاستثمار في التعليم ليس تجارة، بل رسالة ومسؤولية وطنية”.

وهكذا تبقى رؤية فخرو التحذيرية من تحول التعليم إلى سلعة، ورؤية الحواج الداعية إلى الاستثمار في التعليم كمسؤولية وطنية، تمثلان جناحي نظام التعليم البحريني الذي يحلق نحو آفاق أرحب، حيث يظل التوازن بين المسؤولية الاجتماعية والرؤية الاستثمارية الضمانة الحقيقية لتحقيق تعليم يليق بأبناء البحرين ويخدم مستقبلها.

شاركها.