عهود يوسف المحمود

ثقافة الطاقة هي إطار متكامل يجمع بين الوعي والمعرفة والممارسات المسؤولة حول إنتاج الطاقة واستهلاكها، بهدف تحقيق الكفاءة والاستدامة. تتضمن فهم مصادر الطاقة (المتجددة وغير المتجددة)، وتبني سلوكيات ترشيديه مثل تقليل الهدر واختيار تقنيات عالية الكفاءة، بالإضافة إلى دعم التحول نحو الطاقة النظيفة عبر استخدام حلول مبتكرة كالطاقة الشمسية والشبكات الذكية، كما تعزز المسؤولية المجتمعية من خلال مشاركة الأفراد والمؤسسات في مبادرات التوعية، وتشجيع السياسات الداعمة للطاقة الخضراء. تمثل هذه الثقافة ركيزة أساسية لحماية البيئة عبر خفض الانبعاثات، وتعزيز الاقتصاد بتقليل التكاليف، وبناء مجتمع واعٍ قادر على مواجهة تحديات الطاقة المستقبلية عبر التعليم والحوافز والابتكار التكنولوجي.

يرتبط مفهوم الحياد الكربوني ارتباطاً وثيقاً بالثقافة والطاقة، فمن جهة تلعب الثقافة دوراً حيوياً في تشكيل السلوكيات وأنماط الاستهلاك التي تؤثر على انبعاثات الكربون، ومن جهة أخرى يعتمد تحقيق الحياد الكربوني على التحول إلى مصادر طاقة نظيفة ومتجددة.

إلا أن تحقيق الحياد الكربوني يبقى هدفاً بعيد المنال بسبب تحديات بنيوية وعملية تعيق تحقيقه. فمع أن العالم يتجه نحو الطاقة النظيفة، لا يزال الاعتماد على الوقود الأحفوري مهيمناً بنسبة 80% من إجمالي الطاقة العالمية، وتظل الطاقة المتجددة عاجزة عن تلبية الطلب المستمر بسبب تقلباتها الطبيعية، كما تواجه القطاعات الصناعية الثقيلة والمواصلات صعوبات جمة في إزالة الكربون، بينما تفتقر التقنيات الحديثة مثل بطاريات الطاقة والهيدروجين الأخضر إلى النضج الكافي. وتعيق التناقضات السياسية والتنافس الاقتصادي بين الدول التقدم الحقيقي، في حين يستمر النمو السكاني والاستهلاك المتصاعد في زيادة الطلب على الطاقة بشكل يفوق قدرة التحول الأخضر.

لكن هذا لا يعني الاستسلام، بل ضرورة تبني حلول عملية أكثر واقعية، يمكن التركيز على تحسين كفاءة الطاقة، وتوسيع نطاق تقنيات احتجاز الكربون، وتعويض الانبعاثات عبر التشجير، مع مواصلة الاستثمار في الابتكارات التكنولوجية. بدلاً من السعي لتحقيق صفر انبعاثات الذي يبدو مستحيلاً في المدى المنظور، يصبح الحد من ارتفاع درجة الحرارة العالمية عند مستويات مقبولة هدفاً أكثر واقعية، فالمطلوب هو مواصلة المسيرة الخضراء مع الاعتراف بوجود عقبات هائلة، والعمل على تخفيف آثار التغير المناخي ضمن الإمكانيات المتاحة حالياً.

تسعى مملكة البحرين إلى تعزيز ثقافة الطاقة بين مواطنيها ومؤسساتها، في ظل التحديات العالمية الة بأمن الطاقة والتحول نحو الاستدامة، ومع اعتماد المملكة تاريخياً على النفط والغاز كمصدرين رئيسيين للطاقة، فإنها تبذل جهوداً متنامية لتنويع مصادر الطاقة وترشيد الاستهلاك، تماشياً مع رؤية البحرين الاقتصادية 2030 والتزاماتها الدولية في خفض الانبعاثات الكربونية.

وتلتزم المملكة بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2060، مع هدف وسيط لخفض الانبعاثات بنسبة 30% بحلول عام 2035. لا يقتصر هذا الفهم الشامل للحياد الكربوني على مجرد تقليل الانبعاثات، بل يتبنى نهجاً متعدد الأوجه يجمع بين تبني التكنولوجيا المتقدمة، وتغيير السلوكيات الاستهلاكية، وتعزيز القدرة على التكيف مع التغيرات المناخية، وتستند هذه الرؤية إلى الاستراتيجية الوطنية للطاقة، التي أُعلنت في نوفمبر 2023، وتركز على ثلاث ركائز أساسية: تحسين الطلب على الطاقة من خلال مبادرات كفاءة الطاقة وتطبيق متطلبات المباني الخضراء، وتنويع مزيج الطاقة بزيادة حصة الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية واستكشاف الهيدروجين الأخضر، ونشر تقنيات خفض الكربون المبتكرة مثل احتجاز الكربون وتخزينه.

إضافة إلى ما سبق، تولي البحرين اهتماماً كبيراً بزيادة المصارف الكربونية الطبيعية من خلال خطط التشجير وتوسيع مناطق أشجار القرم. وتؤمن المملكة بأن تحقيق الحياد الكربوني يتطلب تعاوناً شاملاً بين الحكومة والقطاع الصناعي والخاص، وتشجيع الابتكار والاستثمار في التقنيات النظيفة. ويتجلى هذا الالتزام في إطلاق مبادرات مهمة مثل خطة العمل الوطنية رؤية البحرين ومنصة صفاء لتعويض الانبعاثات الكربونية، وكلها تهدف إلى بناء مستقبل مستدام يوازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة للأجيال القادمة.

وترتكز كل الخطط والسياسات السابقة على الدعم الكامل من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الموقر، حيث ترأس سموه في الرابع من ديسمبر 2023 الاجتماع الأسبوعي لمجلس الوزراء بقصر القضيبية، وقد استهل الاجتماع بالتأكيد على الأهمية الاستراتيجية للكلمة السامية التي ألقاها حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم حفظه الله و رعاه في مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (COP28) بدبي. وقد تضمنت هذه الكلمة الإعلان عن خطة العمل الوطنية “Blueprint Bahrain”، التي تعد بمثابة خريطة طريق واضحة لتحقيق الحياد الكربوني، وفي السياق ذاته نوّه المجلس بالاستراتيجية الوطنية للطاقة التي دشنتها مملكة البحرين، بالإضافة إلى إطلاق صندوق لتكنولوجيا المناخ بقيمة 750 مليون دولار، وتأسيس منصة “صفاء” لتعويض الانبعاثات الكربونية، وذلك في إطار المساهمات الفاعلة للمملكة ضمن فعاليات مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي 2023.

* باحثة في العلوم السياسية

شاركها.