تبدأ الحكاية بصفٍّ طويل من «تنبيهات» الأجهزة: صوت بصمةٍ يرنّ عند الباب، إشعارٌ يقفز في الهاتف، ورسالةٌ عاجلة تتدلّى في أعلى الشاشة كأنها تذكير بأن نهارك لن يمر بهدوء. في الممرّات، الزملاء يلوّحون بأكواب الكرك ويتبادلون أحاديث الصباح، وفي غرفة الاجتماعات يتحلق الفريق بعد بلاغ غامض عن «مشكلة عاجلة».

العمل كان يسير بشكل طبيعي، فلا أعطال كبيرة ولا إشارات خطر، لكن البلاغ أربك الجميع. وبينما يتساءل البعض عن أصل الحكاية، يبادر أحد الزملاء إلى ترتيب الأمور وضبط أي تفصيلة ناقصة. يقود فريقه لبدء عمل منظم، يعرف فيه كل فرد دوره ويتحرك لتنفيذ المطلوب بسرعة ودقة. وسط هذا الانشغال، يظهر صاحب البلاغ الذي لم يشارك في الحل، لكنه يبدأ جولة «تحقيق» خاصة. يتنقل بين المكاتب، يلتقط صورًا، ويسجّل ملاحظات، وكأنه يجهّز قضية. لا ينتظر اكتمال الإصلاح، بل يبحث عن أي ثغرة ليضيفها إلى تقريره. التقنية في يده ليست أداة إصلاح، بل عدسة مكبّرة لأي نقص، وكأن الهدف إبراز المشكلة لا حلها.

والطريف أن هذا التصرف والذي نراه أحيانًا في بيئات العمل عامة يأتي من شخص مهتم بشؤون الأرقام، يثق في بصمته أكثر من ثقته في نفسه؛ يواظب على الحضور والانصراف بدقة لافتة، وكأنه يعلن: «تراني حاضر، لا أحد يشكّ». لكن الانضباط الحقيقي يُقاس بما تضيفه وقت الأزمات، لا بما تسجله على بوابة الدخول.

وهنا يكمن الفارق: هناك من يسعى ليكتمل العمل بلا ضجيج، وهناك من يسعى لأن يُقال إنه هو من رصد الخلل.

المشهد مألوف خارج المكتب أيضًا. في البيت، حين يتعطل «الراوتر»، هناك من يسرع لإعادة التشغيل وفحص الأسلاك، وهناك من يلتقط صورة للمصباح الأحمر ويرسلها في مجموعة العائلة: «شفتوا؟ قلت لكم الخدمة سيئة!». الصورة لا تُعيد الإنترنت، تماماً كما أن لقطة الشاشة أو التقرير المليء بالملاحظات لا يعيد النظام للعمل ولا يسترجع الوقت الضائع.

القضية هنا ليست في الأشخاص فقط، بل في ثقافة عمل تختزل التقنية في أداة رقابة وتصيد بدل أن تكون وسيلة إنجاز وتعاون. عند الخلل، نحن بحاجة لشاشة واحدة توحّد المعلومة لا عشر شاشات تكرر اللوم. نحتاج جدولاً يَعدّ التجهيزات لحظياً ويظهر حالتها بالأخضر والأحمر، لا جدولاً يَعدّ الزملاء ويصنّفهم بين «مقصر» و«مشاغب». ونحتاج قناة طوارئ تقول: «لا لوم أثناء الإصلاح»، مع حفظ أي نقد لوقت لاحق بعد عودة النظام.

الحل سهل إذا وُجدت الإرادة: إعلان أدوار واضحة بلا التباس، ولوحة متابعة في الزمن الحقيقي، وقاعدة معرفة فيها خطوات الإنقاذ السريع حين يغيب الخبير. وأهم من ذلك، تذكير دائم بأن التقنية مرآة للقيم؛ إن وضعت أمامها شكّاً وهلعاً، انعكس عليك شكّ وهلع. وإن وضعت ثقةً ومبادرة، انعكست سرعة وشفافية. أما التصوير والتوثيق، فمكانه بعد بدء العمل، لا قبله. فالبصمة الحقيقية ليست على جهاز الدخول، بل على ظهر المشكلة وهي تنتهي.

في ديرتنا، الناس طيبون ويحبّون الشغل إذا احترمنا وقتهم وعقولهم. التقنية اليوم في كل يد، من أسواق المحرق النابضة إلى أكبر مؤسسات الرفاع، لكن قيمتها الحقيقية تُصنع بطريقة استخدامها. فلنجعلها جسوراً لا سياجًا: جسراً بين الميدان وغرفة القرار، بين الخلل العابر والدروس المستفادة، بين المبادرة الصادقة والنتيجة الملموسة. عندها فقط، يصبح صوت البصمة على الباب مجرد إيقاع صباحي، بينما الإيقاع الحقيقي ينبض في قلب فريق يثق أولاً، فينجز أسرع.. ويبتسم أكثر.

* خبير تقني

شاركها.