أ.د. مهند إسماعيل الفراس
لعل عملي في الجامعة أتاح لي فرصة ملاحظة ومتابعة نمو وتطور بعض المهارات التي يتمتع بها الطلبة، وهي مهارات قد لا يلاحظها كثير من الناس، حتى الأكاديميين منهم، لأنهم يتعاملون معها يومياً، فأصبح تطورها ونموها بالنسبة لهم غير ملحوظ، حالها حال ذلك الصغير الذي ينمو وسط أمه وأبيه ويكبر دون أن يشعروا بذلك. فهي مهارات لم تأتِ دفعة واحدة، إنما نمت بالتدريج، والفضل في نموها يعود إلى وزارة التربية والتعليم، والنهج الجديد في التعليم وتعلّم وغرس المهارات الرقمية والذكاء الصناعي، وهي تعكس نجاح استراتيجية تعليمية تستحق الوقوف عندها والإشادة بها. ذلك لأنني لا أتكلم عن طلبة الجامعة خلال مدة دراستهم، إنما أتحدث عن خريجي الثانوية العامة في بداية كل عام دراسي ومرحلة الالتحاق بالجامعة.
في الواقع، ما لفت انتباهي يتعلق بتخصصي كوني أحمل شهادة الدكتوراه في تكنولوجيا التعليم، وهي أمور عدة، لكني هنا اليوم لأتحدث فقط عن أمرين منها:
الأول، التحول الجذري في قدرات الطلبة الجدد (خريجي الثانوية) على التعامل مع الأنظمة الرقمية. ولأوضح لكم المسألة، سأرجع إلى الوراء قليلاً، إلى بداية أزمة كورونا عندما اضطر العالم بأسره إلى التعامل مع تكنولوجيا التعليم. في ذلك الوقت كنا نبذل جهوداً كبيرة لدمج الطلبة مع الأنظمة الإلكترونية، ومع أنها كانت أزمة، إلا أنها شكّلت لنا فرصة. فبعد انقضائها، لم نعد إلى حياة الورق في جامعتنا، وذلك تماشياً مع توجهات وزارة التربية والتعليم ورؤية البحرين 2030، حيث أصبحت كل العملية التعليمية والاختبارات الرئيسية وأعمال الفصل تجري بواسطة منصات التعليم الإلكترونية، بما في ذلك اختبارات القبول.
ومن هنا جاءت ملاحظتي: خلال السنتين الماضيتين لاحظت أننا لا نبذل جهداً كبيراً مع الطلبة الجدد القادمين من الثانويات قياساً بالسنوات التي سبقتها، فالجدد يتعاملون بسلاسة مذهلة مع منصات الجامعة وأنظمة التعليم الإلكترونية، وهذه الكفاءة تزداد سنة بعد سنة. فالتهيئة الأولية لهم للتعامل مع هذه الأنظمة أصبحت أسهل على موظفينا، ووجدنا أن استعداد الطلبة يفوق توقعاتنا. وفي الوقت نفسه، وبما أن الجامعة فيها طلبة من جنسيات مختلفة ومن أكثر من دولة، لاحظت أن الطلبة خريجي المدارس البحرينية يتعاملون مع تكنولوجيا التعليم بطريقة متميزة عن زملائهم القادمين من دول أخرى، فهم يتنقلون بين أقسام المنصات التعليمية بمفردهم، ويتجاوزون بعض المشكلات التقنية البسيطة بمفردهم أيضاً، وهذا انعكس إيجاباً على أدائهم الأكاديمي، فهم لا يستهلكون وقتاً في التعرف على أنظمة التعليم الإلكترونية، وحتى عندما يُطلب منهم تقديم أعمال الفصل، لاحظت أنهم الأسرع في التكيف مع منصات إلكترونية أخرى متخصصة في الأعمال المطلوبة منهم. نعم، إنه عصرهم، عصر Digital Native.
الدراسات الحديثة تؤكد أن نجاح الطلبة في بيئات التحول الرقمي يعتمد بشكل كبير على الكفاءة الذاتية الرقمية (Digital SelfEfficacy)، أي ثقة الطالب في قدرته على إنجاز المهام التعليمية باستخدام التكنولوجيا الرقمية كما عرّفه العالم ألبرت باندورا (Albert Bandura). أوضح باندورا أن الطلبة ذوي الكفاءة الذاتية الرقمية العالية يتسمون بقدرة أكبر على اختيار الاستراتيجيات التعليمية، ومستوى أعلى من التحمل في مواجهة التحديات، واستعداد أكبر لخوض تجارب تعليمية جديدة، وقدرة متقدمة على حل المشكلات باستخدام التكنولوجيا.
كما أظهرت دراسة أخرى أن الجاهزية الرقمية (Digital Readiness)، بما تتضمنه من مهارات تقنية ودافعية واستعداد نفسي، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأداء الأكاديمي والقدرة على استخدام استراتيجيات التعلم الحديثة بكفاءة. وهذان المؤشران لا يمكن تطويرهما إلا من خلال استراتيجية رقمية شاملة تقوم على بناء الثقة والقدرة الرقمية لدى الطلبة.
الأمر الثاني الذي لاحظته، هو التحول في توجهات الطلبة، خصوصاً في السنة الأخيرة والقبول في هذه السنة. فخريجو الثانويات الجدد أصبحت لديهم الرغبة في دراسة تخصصات تطبيقية مثل الهندسة وغيرها، بعد أن كانت التخصصات النظرية قد استحوذت على توجهات الطلبة في السنوات الماضية. والتوجه نحو الهندسة والتخصصات التطبيقية لا يمكن أن يأتي من فراغ، إنما يقف خلفه تطوير لمهارات الطلبة في الرياضيات وبعض المواد المتعلقة بالهندسة، وهذا يعد وعياً متنامياً بحاجات سوق العمل الحالي والمستقبلي. بكل تأكيد هناك فريق عمل طوال الأعوام السابقة عمل على توجيه الطلبة بأهمية تخصصات STEM، وهذا ما تحتاجه مملكة البحرين في السنوات القادمة.
من المهم الإشارة إلى أن هذا التطور في تعزيز الكفاءة الذاتية الرقمية (Digital SelfEfficacy) والجاهزية الرقمية (Digital Readiness) لدى طلبة الثانوية، لم يأتِ بجهود ذاتية من الطلبة وحدهم، بل من خلال استراتيجية التمكين الرقمي التي تشمل أهدافاً محددة تبنتها وزارة التربية والتعليم، والتي يقف خلفها سعادة وزير التربية والتعليم وفريقه المتميز. اعتمدت الوزارة على إدماج التكنولوجيا في المناهج، وتدريب المعلمين والطلبة على أحدث أدوات التعليم الرقمي، إضافة إلى توفير بنية تحتية متطورة ومنصات تعليمية وطنية. كما ركّزت على تعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين، وتنفيذ برامج إرشادية وتدريبية ترفع ثقة الطلبة بقدراتهم التقنية وتزيد استعدادهم للتعلم الذاتي والمستقبلي.
هذه الملاحظات جاءت نتيجة للتعامل اليومي، لكن الأهم أنها تعكس استراتيجية تعليمية ناجحة، ورؤية متكاملة لطلبة المدارس، مدعومة بطرق تدريس ومناهج تركز على الجوانب التكنولوجية والتطبيقية، وتوجه ثابت نحو إدماج التكنولوجيا في كل جوانب العملية التعليمية وبمختلف المراحل. وهذا، بلا شك، تطور نوعي في مخرجات التعليم البحريني، يستحق التقدير والثناء من منطلق أكاديمي موضوعي، إذ أثمر بالفعل وأحدث نقلة نوعية في مستوى الطلبة، نقلة من شأنها أن تضع مملكتنا الحبيبة في مقدمة الدول الرائدة في اقتصاد المعرفة وتكنولوجيا التعليم.
* دكتوراه في تكنولوجيا التعليم