انتهت فعاليات مدينة الشباب هذا العام، تلك المبادرة الرائدة التي يرعاها سمو الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، محققةً نجاحًا كبيرًا في استقطاب الطاقات الشبابية وموجهة نحو الإبداع والابتكار، غير أن ما يميز مدينة الشباب لا يقتصر على أنشطتها وفعالياتها، بل يتجسد في الرسالة الأعمق المتمثلة في صناعة قادة المستقبل، وصياغة جيل قادر على التغيير الإيجابي.
كنتُ حريصًا على زيارة المدينة بصفتي الشخصية، متخفيًا عن الرسميات لأعايش التجربة بصدق، وخلال عشر دقائق فقط من التجوال بين أروقتها صادفت أربعة طلبة من الجامعة الخليجية حيث أعمل، هؤلاء الشباب حدثوني عن تجربتهم بشغف، وقالوا إنهم سعداء بالمشاركة والتنظيم، ويشعرون بالفخر لأنهم يقدمون ورش عمل ويشاركون في إدارة الفعاليات، مشيت بينهم أتنقل بين ورش للرسم وأخرى للابتكار المخصص للأطفال وبين المسابقات المقامة على المسرح، وما لفت نظري لم يكن فقط تنوع البرامج، بل المستوى العالي من التنظيم والجودة في التنفيذ، والرقي في التفاصيل، مع حرص واضح على الهوية الوطنية البحرينية، انتابني شعور أن هذه المدينة ليست مجرد حدث، بل مدرسة وطنية في القيادة، وفي هذا العام، تشرف شباب مملكة البحرين كافة بزيارة أبوية من حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة حفظه الله ورعاه، والتي جاءت لتؤكد على دور الشباب في بناء المستقبل، ولتعكس الثقة الكبيرة التي توليها القيادة الرشيدة لأبنائها باعتبارهم عماد التنمية وأساس النهضة، وأثناء تلك المشاهدات قفزت بذاكرتي إلى الوراء، إلى اللحظة التي قرأت فيها خبرًا عن تعيين فاطمة الماجد مديرة لإدارة مدينة الشباب، لم يكن الخبر عابرًا بالنسبة لي، فأنا أعرف فاطمة عن قرب منذ أن تقدمت للعمل في الجامعة الخليجية في قسم العلاقات العامة، منذ بدايتها أظهرت شخصية واثقة، حاضرة الرأي، ملتزمة في العمل، ذات قدرة لافتة على التعبير عن وجهة نظرها، وبحكم طبيعة عمل العلاقات العامة الة مباشرة برئيس المؤسسة، كنا نتناقش كثيرًا في تفاصيل الأحداث، وكانت دائمًا تطرح رؤى تتسم بالعمق والالتزام، حين وصلنا خطاب من وزارة شؤون الشباب حول إطلاق سمو الشيخ ناصر برنامج لامع، لم أتردد لحظة في ترشيحها، لم أستشرها ولم أنتظر ترددها، بل اتخذت القرار مباشرة من قناعتي أنها النموذج الأمثل، ما ميز فاطمة في تلك المرحلة أنها كانت ملتزمة على مستويين؛ الالتزام بالدوام الرسمي والالتزام بمتطلبات البرنامج، بذلت جهدًا مضاعفًا ونجحت في الوصول إلى المراحل النهائية، حاملة معها مهارات جديدة وصقلًا لشخصيتها القيادية، بعد عودتها من البرنامج لاحظت التحول الكبير في شخصيتها، فقد أصبحت أكثر جرأة في اتخاذ القرار، وأقرب إلى صياغة رؤية طويلة المدى، والأجمل من ذلك أنها كانت تقنعني أحيانًا بتغيير قرارات اتخذتها مسبقًا، كنت أخسر رأيي، لكني أربح جامعة أكثر تقدمًا بفضل زاوية الرؤية لديها، هذه اللحظات جعلتني أدرك أن القائد الناجح هو الذي يفرح عندما يتفوق أحد موظفيه بالفكر والرؤية، كانت فاطمة تفعل ذلك بأسلوب راقٍ يجبرني على الاستماع وإعادة النظر، وهو ما جعلني أزداد ثقة بها.
لكن كل قصة نجاح تحمل معها لحظات فراق، في يومٍ غير معتاد دخلت فاطمة مكتبي بخطوات مختلفة، طرقت الباب بهدوء وجلست أمامي، نظرتها لم تكن كما عهدتها، وقالت مباشرة: ((دكتور، أنا حصلت على عقد عمل في وزارة شؤون الشباب مسؤولة للعلاقات العامة))، هنأتها من قلبي وقلت لها: ((ألف مبارك… نعم خسرنا بمفهوم خسارة موظفة مبدعة، لكن كسبتك البحرين كلها، اليوم ستصبحين ملكًا لشباب البحرين، وهذا دور أكبر ويناسب قدراتك))، ابتسمت وعيناها تملؤهما الدموع، ثم طلبت ألا تكتب استقالة رسمية، وكأنها أرادت أن توصل رسالة خفية بأن الجامعة لم تكن مجرد مكان عمل يترك بورقة إدارية، بل المكان الذي تطورت فيه مهاراتها وتغيرت فيه شخصيتها، لم أرفض طلبها، ففاطمة كانت دائمًا مختلفة في أفكارها ومبادراتها، حتى في وداعها أرادت أن تترك بصمة غير تقليدية، رسالة حب صادقة لمؤسسة احتضنت بداياتها، كلماتها يوم الوداع أبكت الجميع، فقد كانت مغادرتها الجامعة لحظة مؤثرة نادرة، وفي أول يوم عمل لها بالوزارة، اتصلت بي لتسأل عن الجامعة، قلت لها: ((كحال أب ودّع ابنته وهي تذهب إلى مهمة فخر ونجاح))، وبعد أسبوع دخلت عليّ بابتسامة مختلفة قائلة: ((دكتور، اليوم قابلت سمو الشيخ ناصر حفظه الله، وتم تكليفي بأن أكون مسؤولة الاتصال المؤسسي في شركة أسري، إحدى كبريات شركات صناعة وإصلاح السفن))، شعرت حينها أن قراري بترشيحها إلى برنامج لامع لم يكن فقط دعمًا لموظفة، بل مساهمة متواضعة في صناعة قائدة بحرينية أثبتت جدارتها، أذكر يومًا آخر اصطحبتني فيه إلى ملعب كرة القدم بالجامعة لشرح خطتها للاحتفال بالعيد الوطني وعيد جلوس جلالة الملك، جلست على الأرض ترسم بيدها أماكن المسرح والفعاليات، مبدعة في التفاصيل، بينما كنت أكتفي بالموافقة مأخوذًا بحماسها، وعند عودتنا قالت لي جملة اختزلت مشاعرها كلها: ((دكتور… نحن لا نسكن في البحرين، بل البحرين تسكن فينا))، توقفت حينها صامتًا، لم أجد بعدها كلامًا يمكن أن يضيف على هذه العبارة شيئًا.
إن تجربة فاطمة الماجد ليست قصة شخصية فحسب، بل نموذج حي لنجاح برنامج لامع أطلقه سمو الشيخ ناصر، لقد منحها البرنامج قوة القرار، وثقة القيادة، ورؤية التغيير، وجعلها اليوم تتبوأ مناصب قيادية في مؤسسات وطنية كبرى، لذا اختيارها لتشغل منصبها الحالي لم يكن محض صدفة، إنما هو تنفيذ لرؤية سمو الشيخ ناصر الثاقبة، وفاطمة ليست وحدها، فهناك عشرات الشباب الذين خرجوا من رحم هذه المبادرة وهم أكثر إيمانًا بقدرتهم على إحداث التغيير، وهذا هو جوهر الرؤية التي يؤمن بها سمو الشيخ ناصر؛ بناء جيل يسكنه الوطن قبل أن يسكن الوطن فيه. كل الشكر والتقدير لسموه على هذا المشروع الوطني الرائد الذي حول الأحلام الفردية إلى قصص نجاح جماعية، وجعل من البحرين منارة لصناعة القادة الشباب.