حنان الخلفان
في دوامة الحياة اليومية، لا يجد المستهلك من وقت ليتحقق من كل ما يقع في طريقه. نحن نعيش وفق مبدأ الثقة، وربما لا نملك رفاهية الشك. نشتري ما نحتاج، نقرأ تواريخ الصلاحية المطبوعة بدقة، ونتّكل على ما نراه أمامنا. لكن حين تنكسر هذه الثقة، لا يعود الأمر مجرد خلل، بل يصبح صدمة تهز أعماق المجتمع.
ما جرى مؤخراً، كما تناولته الصحافة، عن اكتشاف تلاعب في تواريخ صلاحية سلع غذائية داخل سلسلة تجارية معروفة، لم يكن خبراً عابراً. بل كان حدثاً صادماً يكشف حجم الهوة بين ما نراه وما يجري خلف الستار. أغذية فاسدة في طريقها إلى المستهلك، أرفف قديمة تُلبّس الجديد، وعيون كثيرة فضّلت الصمت.
وسط هذا المشهد المريب، أطلّ وجه جديد للحقيقة. عامل آسيوي بسيط، ربما لا يجيد العربية، ولا يملك أي سلطة، لكنه امتلك ما عجز عنه كثيرون: ضمير يقظ. هذا العامل لم ينتظر تعليمات، ولم يبرر لنفسه الصمت، بل آثر تسجيل ما يحدث ورفعه للعلن. لم يكن بطلاً خارقاً، لكنه بطل من نوع آخر… بطل رفض أن يُغلق عينيه.
وهنا السؤال: كم من مرة مررنا نحن بجوار هذه الأرفف؟ كم وجبة وصلت إلى مائدة أسرة، كانت تحمل في مكوناتها خطراً صامتاً؟ وكم عبوة حليب أطفال أو طعام رضّع، ظنّها الأهل مصدر تغذية وأمان، فإذا بها تحمل ما يُهدد صحة الأبرياء في بداياتهم الهشة؟ هذه الأسئلة مؤلمة، ليس لأنها تُدين أحداً، بل لأنها تكشف إلى أي مدى يمكن أن نُخدع ونحن نبتسم، ونمنح الثقة دون أن ندري أننا نضعها في غير موضعها.
ولا يمكن الحديث عن هذه القضية، دون أن نُثمّن الدور الذي قامت به الجهات المعنية، وفي مقدّمتها وزارة الداخلية ووزارة الصحة ووزارة الصناعة والتجارة، والتي تعاملت مع البلاغ بمسؤولية وسرعة تستحق التقدير، وأكدت أن حماية المستهلك وسلامة المجتمع تمثلان أولوية لا مساومة فيها. هذه الاستجابة الحازمة تعكس وعياً مؤسساتياً مهماً في مواجهة الغش، وتُعيد للمستهلك جزءاً من الطمأنينة التي كادت أن تتلاشى.
ولا يمكن إغفال جانب مهم في هذه القضية، وهو حق العائلات المتضررة، فمن غير المستبعد أن الكثير من الأسر اشترت هذه المنتجات بثقة، وربما لا تزال تحتفظ بها دون علم بمصدرها أو صلاحيتها. ومع تزامن الحادثة مع نزول الرواتب، فإن الضرر قد طال جيوب الناس ونفسياتهم على حدٍّ سواء. ولهذا، فإن طرح آلية لتعويض المتضررين أو استرجاع قيمة المشتريات التي يثبت أنها تعود لتلك المنتجات المشبوهة، سيكون خطوة عادلة تعيد للمستهلك شيئاً من حقه، وتُشعره بأن صوته وماله لهما قيمة في ميزان العدالة المجتمعية.
الغش التجاري لا يأتي فجأة. إنه يبدأ بتساهل، ويكبر مع كل مرة يُسكت فيها عن الخطأ. وما يُفزع في القصة أن هذه الممارسات ظلت لفترة طويلة، دون أن تكتشف. وهذا يجعلنا نعيد التفكير: من يحمي المستهلك؟ هل نكتفي بالمراقبة، أم يجب أن نزرع في الناس ثقافة «أقول ولو لوحدي»؟
تكريم هذا العامل ليس ترفاً، إنه رسالة. رسالة تقول: من يبلغ عن الخطأ يُقدَّر، لا يُقصى. من يدافع عن الحق يجد من يسمعه. وربما هذا هو أكبر ما نحتاجه الآن: أن يشعر كل موظف، كل عامل، كل مستهلك، أن صوته لا يضيع، وأن النزاهة لا تُكافأ بالصمت.
لعل ما حدث يكون بداية وعي جديد، لا يعتمد فقط على الجهات الرقابية، بل ينطلق من داخلنا نحن. من إحساسنا بالمسؤولية، من قدرتنا على المساءلة، من شجاعة السؤال. فالثقة ليست مفروضة، بل تُمنح وتُستحق.وبصراحة، إذا كان صوت هذا العامل قد هزّ رفوف الغش، فربما يكون صوته هو أول خطوة لبناء رفوف جديدة… تليق بثقة الناس.