لطالما ارتبط السقوط الأخلاقي بالسعي خلف المال، وقيل قديماً إن بعضهم قد يفرّط بكرامته أو قيمه مقابل حفنة من الدراهم. كانت تلك الحكايات تُروى بخجل، وتُقال بتحفظ في المجالس. أما اليوم، فلم تعد الكرامة تُباع مقابل مال حقيقي، بل مقابل «أسد» إلكتروني يهديه متابع مجهول في بث مباشر على تيك توك!
في زمنٍ اختلط فيه الجنون بالإبداع، والسخف بالمحتوى، لم نعد نفرّق بين من يقدم رسالة ومن يقدم رأسه. لم نعد نندهش ممن يطلّ علينا من شاشة الهاتف، وهو يغرق في الحمق، بل نندهش فقط من كمّ التفاعل الذي يحصده. ويبدو أن شعار المرحلة أصبح ببساطة: «إذا لم تستحِ… بث مباشراً!»، إذ لم يعد الجنون يُودع في المصحات، بل يُبث عبر الإنترنت بجودة HD، مع فلتر صاخب وموسيقى «ترند».
نحن لا نتحدث عن دعابة ثقيلة أو نكتة مرتجلة، بل عن نوع جديد من السلوكيات المصورة التي تُبث على العلن بلا حرج، يُطلق عليها أصحابها وصف «محتوى»، بينما هي في حقيقتها لا تليق حتى بأن تُوصف بالعبث. كل شيء مباح في سبيل الظهور، وكل وسيلة مبررة طالما هناك جمهور يصفق ويضحك ويتابع.
قبل أيام، اهتزت المنصات في البحرين بعد أن خرج أحدهم في بث مباشر، يعبث برأسه في المرحاض وكأنه يقدّم مشهداً تمثيلياً عبقرياً سيُعرض في مهرجان عالمي.
والأمر ليس أنه مراهق في لحظة تهور، ولا طفل يجهل العواقب، بل شاب في عمر يُفترض أنه يخطو نحو بناء ذاته، أو يكون ربّ أسرة، أو شاباً طموحاً يشق طريقه في الحياة. لكنه للأسف قرر أن يشق طريقه في اتجاه المرحاض، لا المجد!
المشهد لم يكن مجرد تجاوز، بل كان إهانة علنية للقيم، واستهتاراً بالمجتمع، وضرباً للذوق العام بعصا من البلاهة الرقمية. ومع ذلك، لا زال هناك من يبرر، ويضحك، وربما يرى في هذا «ستايل جديد» أو «كركتر طريف».
وأنت كمشاهد… هل تدرك أنك حين تضحك وتتابع وتشارك، فأنت لا تستهلك فقط محتوى، بل تزرع نموذجاً؟
هل فكرت أن دعمك لهذا النوع من السلوكيات قد يجعل أحد أبنائك يقول لك يوماً: «أنا بعد أبغي أصير مشهوراً… مثله!»؟
حينها، لا تستغرب، ولا تلومه، فقد كنت المتفرج… والمصفّق… والممهد للطريق.
لا أحد يرفض أن تكون وسائل التواصل مساحة للإبداع، لكن ما نراه اليوم ليس إبداعاً، بل انحدار مغلّف بضحكة مصطنعة وجمهور غافل، والمؤلم أكثر أن هناك من يعتقد أن ما يفعله هو رسالة، وأنه «يعكس الواقع»، في حين أن ما يقدمه لا يعكس سوى اضطراب في فهم الحدود.صحيح أن الجهات المختصة تحركت، وهذا يُحسب لها، لكن تبقى الأسئلة الأهم معلقة: هل تكفي العقوبات؟ وهل نملك فعلاً تشريعاً واضحاً يضع حداً لهذا النوع من «الترفيه الهابط»؟ أم أننا ببساطة نحتاج إلى جمهور عنده زر إغلاق أسرع من زر الإعجاب؟
وبصراحة.. لا أحد ضد الضحك، لكننا جميعًا ضد أن يُصبح العبث مهنة، وأن يتحوّل الجنون إلى وسيلة، وأن يكون الهاتف منصة لتخريب الذوق قبل العقول.
وإذا ما قدرنا نمنعهم من الظهور، على الأقل لا نكافئهم بالتصفيق.
وفي النهاية، تذكّر أنك اليوم قدوة. فأي قدوة ستكون؟
هل تختار أن تفتح الباب لجيل يتعلّم أن المال يُجنى من المرحاض، أم تُريهم أن النجاح يبدأ من الجامعة؟ القرار ليس فقط في يد من يبث… بل في يد من يُشاهد أيضاً.