فيصل الملا: ربطت الرياضة بالتعليم ونلت الميداليات البرونزية والفضية والذهبية
يروي مسيرة حياته بين الشقاوة في الطفولة والتميز في الشباب
بخور زوجتي أطلق صفارات الإنذار في سكن الطلبة والمطافئ أخلت المكان
الولد الشقي أول بحريني ينال دكتوراه علوم التربية الرياضية من أمريكا
رسالة بخط اليد للدكتور فخرو أحدثت تغييراً مفصلياً في مسار حياته
ألّف كتاب منهج كرة اليد واستمر تدريسه لطلبة الثانوي 15 عاماً
البحث العلمي يستخدم في منطقتنا العربية فقط للوجاهة
درست في المعهد العالي للمعلمين وكان مقره قصر الشيخ حمد
عاهدت نفسي بعدم استنساخ تجارب الآخرين واخترت الأصعب والأبعد
راتبي بوظيفة “معيد” في جامعة البحرين كان أقل من راتبي كمعلم بتسعين ديناراً
أيمن شكلتصوير محمد عز الدين
تمثل مرحلة الطفولة المنعطف الأول في حياة الإنسان، فأين كانت طفولتك وأثرها في مستقبلك؟
أعتبر مرحلة الطفولة هي الوطن لأنها بداية الارتباط بهذه الأرض الجميلة، وأنا ولدت في منطقة السلمانية المأخوذة من اسم الأب الأمير الراحل سلمان آل خليفة، والمنطقة كانت فريجاً صغيراً يتكون من عائلة كبيرة متحدة بين عوائلها.. متكافلة ومتعاونة ومتحابة، فعندما يكون هناك حدث في أي من البيوت يتفاعل معه الجميع وكأنه قد حدث في بيته. حتى التربية يجدها الطفل في كل بيت، فعندما يخرج للعب يجد جيرانه ينصحونه بالعودة للمذاكرة وتأتي الأوامر من أي أم في الفريج.. «ليش طالع من البيت؟… روح ذاكر».
كيف كانت البيئة المحيطة بطفولتك؟
السلمانية كانت في تلك الفترة محاطة بالأراضي الزراعية والبحر ولم يكن هناك امتداد عمراني لما بعد هذه المنطقة وتميز أهل هذه المنطقة بنقاء البحر وجمال الزرع، فكان أهلها يتمتعون بابتسامة نقية، كما أنها احتضنت رواد الإعلام الأوائل ومن أبرزهم مؤسس الصحافة البحرينية محمود المردي، وصاحب الصوت الإذاعي المخملي إبراهيم علي كانو.
حدثنا عن العائلة والإخوة؟
كنا 6 أبناء لعائلة مقسمة بالتساوي بين البنين والبنات، والذي يكبرني كان أخ هاوٍ للمسرح والتمثيل ودرس في الكويت، وعندما كان يعود للبحرين ونحن صغار، يُدخلنا جميعاً في ورشة عمل مسرحية، فيعطي كل واحدٍ منا دوراً ليمثله ويأتي بالرواية من الحكاوي القديمة، وكنت عادة أحصل على شخصية الرجل الذي يتسوق!
محطاتك في مراحل الدراسة؟
درست المرحلة الابتدائية في مدرسة العلاء الحضرمي التي كانت بوابتها لا تبتعد عن بيتنا سوى عرض الشارع، حتى إن أهلي أدخلوني للفصول بصورة غير نظامية قبل السن القانوني لإشغال الوقت والتعود على الدراسة فكانت الوالدة تقول لهم «أخذوه وفكونا منه».. وتميزت مدرسة العلاء الحضرمي بوجود ملعب أو ساحة خلفية كبيرة كانت تستخدم لتدريب الخيول على السير في الموكب العسكري من وزارة الداخلية. وأذكر في تلك الفترة كان إعلان استقلال البحرين وأقيم حفل كبير في الساحة القريبة من حديقة الأندلس اليوم، وكنت وقتها أطالب والدي بشراء دراجة وألح في طلبي كل يوم «أبغي سيكل أبغي سيكل» حتى جاء به في يوم الحفل الكبير، فذهبت إلى الحفل بالدراجة وعدت بدونها لأنها سرقت في أول طلعة «فذهبت للحفل وأنا مستانس.. رجعت أصيح». و عندما دخلت المرحلة الإعدادية كنت من أول من طبقوا عليهم نظام السنوات الثلاث، لكن ما كان يميز تلك المرحلة أن الزملاء لا يتركون بيتاً فيه زميل إلا وينتظرون انضمامه إلى موكب الذهاب للمدرسة، فالذي بيته أبعد ينتظر زميله الذي بيته في الطريق للمدرسة.
لماذا توجهت للتعليم؟
مسيرتي على مدار الأربعين سنة تتمحور حول التعليم، فمنذ الطفولة احتضنتنا خالتي التي كانت مديرة مدرسة، وأول خريجة من معهد المعلمين في الستينات، وهذا ما أعطانا انطباعاً بأنها النموذج الأمثل، وفي الواقع كنت أحب الرياضة ومعروف بأنني «الولد الشقي» في بداية الحياة، لكن الأوامر الصارمة حاصرت الشقاوة التي لدي، وعلى الرغم من اعتبار الرياضة في مجتمعات الماضي «مضيعة للوقت» إلا أننا اكتشفنا أنها أساس تربوي ورافد لتحضر المجتمعات. ومارست في الطفولة كل أنواع الألعاب الشعبية والموسمية التي اندثرت اليوم ولا يعلم الشباب عنها شيئاً، وهذا ما وجهني لدراسة الرياضة بدلاً من الجيولوجيا.
كيف حولت هواية كرة اليد إلى مهنة ودراسة؟
كان لكرة اليد أثر في حياتي ومستقبلي فبعد أن مارست اللعب لعشر سنوات، وخلال المرحلة الثانوية التي تمثل مرحلة تحديد الاتجاهات، ونظراً لأن كل المحيطين بي والأكبر سناً كانوا معلمين، اخترت القسم الأدبي جنباً إلى جنب مع هوايتي المفضلة وهي الرياضة، والتي حولتها من هواية إلى مهنة وهذا ما أقوله دائماً للطلبة «حولوا مهنتكم إلى هواية». وتوجهت إلى المعهد العالي للمعلمين للدارسة مثل كثيرين في عائلتنا ورفضت الذهاب إلى الكويت مثل أخي، وكان المعهد في تلك الفترة في قصر الشيخ حمد، ولك أن تتخيل مدى الفخر بأننا ندرس في قصر الشيخ حمد وليس معهداً عادياً.
واستهوتني مكتبة المعهد وهي الهواية التي استمرت معي حتى الجامعة فكنت أتردد باستمرار على المكتبة، لكن الجانب المظلم في الأمر هو أن صوتي المرتفع كان يتسبب في إزعاج الموجودين وكان دائماً ما ينادي أمين المكتبة علي قائلاً: «فيصل.. فيصل اسكت».
لماذا لم تكمل الدراسة في قصر الشيخ حمد؟
في آخر فصل من المعهد انتقلنا إلى مدينة عيسى التي خلت وقتذاك من أي معالم ومبانٍ، فكان محيط المعهد أراضي صخرية وصحراء جرداء، لكن هذا لم يمنعنا من اكتشاف المنطقة الجديدة لساعات حيث كان تعتبر بالنسبة لنا في هذا الوقت «البر» الذي نقضي فيه وقتاً ممتعاً. وعندما دخلت المعهد تحاورت مع نفسي.. ماذا تريد يا فيصل؟ ووجدت الإجابة الداخلية هي أن أتميز في مجال التعليم وأربط حبي للرياضة بمجال عملي الذي اخترته، وهذا التميز الذي اخترته لنفسي تجسد في السنوات التي تلت هذا الحوار النفسي، ولهذا كنت الأول على الدفعة، وتم تكريمي في ثلاثة أعياد للعلم بالميداليات البرونزية والفضية والذهبية.
ماذا حدث بعد التخرج من المعهد؟
عندما تخرجت من المعهد كانت الوظائف متوفرة فدخلت في مجال التعليم معلماً في مدرسة الرازي الابتدائية، ثم مدرسة ابن رشد في المرحلة الإعدادية وبعدها الحورة الثانوية والتي تسمى حالياً «أحمد العمران» وللصدفة الجميلة أنني كنت معلماً وقت أن تم تغيير الاسم وأقيمت احتفالية كبيرة شاركت في تنظيمها.
كيف حدثت النقلة العلمية؟
في عام 1983 بدأت عملية إعادة تأهيل خريجي المعهد لدراسة البكالوريوس، وكنت الأول على الدفعة فتواصلت معي جامعة البحرين حيث كانوا يبحثون عن معيدين، وعرضوا علي وظيفة «معيد» بينما كنت أعمل مدرساً في المرحلة الثانوية، ولكي أتمكن من الانتقال، كان يستوجب ذلك إيجاد البديل الذي يحل مكاني، وهي مشكلة لم أجد لها حلاً، فقررت كتابة خطاب لوزير التربية المفكر الدكتور علي فخرو، وكان خطاباً بسيطاً مكتوباً بخط اليد وسلمته إلى مكتب الوزير بنفسي حيث كان مكتب الوزارة قريباً من مدرسة الحورة، فذهبت سيراً على الأقدام وقدمت الخطاب، وتفاجأت بالرد والموافقة على طلبي في غضون 48 ساعة، عندها تلقيت اتصالاً من الجامعة بضرورة استكمال إجراءات الالتحاق بوظيفة معيد بعد موافقة الوزير على الطلب.
وأذكر أن الراتب الذي تقاضيته بوظيفة «معيد» أقل من راتبي كمعلم بتسعين ديناراً، لكن قررت التضحية لبداية المرحلة الأكاديمية، وفي تلك الفترة كنت عضواً في اللجنة العليا للمناهج، وتم تكليفي بتأليف كتاب منهج كرة اليد للمرحلة الثانوية والذي استمر تدريسه للطلبة مدة 15 عاماً.
متى قررت الزواج؟
خلال الدراسة الجامعية في عام 1984 كانت زميلة أصغر مني في الدراسة ونفس التخصص التعليمي ومن محاسن الصدف اكتشفت أنها من نفس منطقة السلمانية وتشاركنا الأفكار لتكون سنداً لي في حياتي.
لماذا اخترت الدراسات العليا في دول غربية؟
استمراراً للتميز الذي اخترته مستقبلاً لي، فقد عاهدت نفسي على عدم اتباع مسار الآخرين في استكمال الدراسات العليا بدول عربية، واخترت الأصعب والأبعد وقررت السفر للدراسة في بريطانيا، حتى إن زوجتي انزعجت من الاختيار وقالت لي «مثلك مثل الآخرين» لكني لم أرغب في أن أكون نسخة ممن سبقوني، ولذلك كنت أول بحريني يحصل على درجة الدكتوراه في علوم التربية الرياضية من الولايات المتحدة وأول بحريني يحصل على الأستاذية في هذا المجال بجامعة البحرين.
وفي عام 1992 حصلت على أول بعثة لجامعة في بريطانيا ودرست في كلية التربية مجال المناهج وطرق تدريس التربية البدنية وقضيت سنتين، ففي السنة الأولى درست اللغة الإنجليزية، وحينها كنت قد رزقت بأول ابنة وفي بدايات زواجي، فاستطاعت زوجتي أن تحصل على إجازة لمدة سنة من عملها لتقضيها معي في بريطانيا.
ولحسن حظي أن الجامعة قد شيدت مبنى للطلبة المتزوجين وحصلنا على سكن جديد كلياً، والأهم فيه أنه كان مؤمناً على مدار الساعة، وقريب من الجامعة فوافقت زوجتي على الحضور رغم رفضها للمعيشة في بلد غريب.
ومن المواقف التي حدثت أثناء تواجد زوجتي معي أنها قامت بعمل بخور كعادة الأسرة البحرينية، وتسبب الدخان في تشغيل صفارات الإنذار ووصول الدفاع المدني للمبنى بسرعة وإخلائه من جميع القاطنين فيه، وبدؤوا في الطرق بقوة على باب الشقة اعتقاداً منهم بوجود حريق فيها، لكن عندما اكتشفوا الحقيقة قاموا بتوبيخ زوجتي على فعلتها.
متى انتقلت للدراسة في أمريكا؟
أنهيت دراستي في بريطانيا بتميز وقررت أن أواصل الدراسة في أمريكا باعتبارها الأكثر شمولاً في التخصص الذي أعمل فيه.. وكالعادة واجهت اعتراضاً من زوجتي التي قالت لي «ليش تحب تصعبها باستمرار» لكني كنت دائماً ما أبحث عن التحدي. وراسلت أكثر من 50 جامعة وأجريت اختبارات متعددة وتحضيرات مكثفة، إلى أن حصلت على قبول في البرنامج الذي كنت أرغبه ووصلت إلى أمريكا في عام 1995، لإنهاء دراسة الدكتوراه في ثلاث سنوات ونصف، في السنة الأولى كنت بمفردي ثم التحقت بي عائلتي في السنة الثانية بعد أن صاروا ابنتين وأمهما.
ما الفارق بين الدراسة في بريطانيا وأمريكا؟
وجدت في أمريكا عالماً مختلفاً عن بريطانيا خاصة وأن وسائل الراحة متوفرة واستطعت شراء سيارة بسهولة، كما أن الطلبة الزملاء يساعدون بعضهم ويأتون للمطار لاستقبالك بخلاف بريطانيا ومجتمعها المحافظ، وخلال الدراسة كانت الجامعة تعرض على الطالب المتميز المشاركة في العملية التعليمية بمقابل مادي، فشاركت كمساعد مدرس لثلاث سنوات وهذا الأمر مكنني من الارتقاء بمستوى الدراسات التي أقوم بها.
ماذا حدث بعد عودتك من أمريكا؟
بعد نهاية الدراسة في أمريكا كنت الأول على دفعتي كالمعتاد، ثم عدت إلى البحرين حاملاً شعوراً مختلفاً، فاليوم أنا دكتور جامعي وأستاذ، ولذلك قررت مواصلة التميز بأبحاثي التي قدمتها بعد ذلك فأنا قدمت 400 مقال منشور في مجلات محلية وعالمية وأكثر من 50 بحثاً علمياً منشوراً بالإضافة إلى 8 كتب.
كيف ترى مستقبل البحث العلمي في عالمنا العربي؟
البحث العلمي هو وسيلة نقل مجتمع من مرحلة إلى أخرى وعصرنة المعيشة وهو التمرد على الواقع، لكن مع الأسف البحث العلمي لا يأخذ مكانته في المنطقة العربية ونتعامل معه كوجاهة، حيث تبلغ نسبة مساهمة الدول العربية في البحث العلمي 0.2%، بينما هناك دول أقل في التعداد والمساحة وتبلغ مساهمتها 14% وهذا هو سبب تميز الدول الغربية لأن البحث العلمي لا يواجه أي قيود. أيمن شكل تصوير محمد عز الدين
الولد الشقي الذي تحول إلى باحث أنتج أكثر من 50 بحثاً علمياً و8 كتب و400 مقال منشور في مجلات محلية وعالمية، بعد أن عاهد نفسه على عدم اتباع مسار الآخرين.. إنه البروفيسور فيصل الملا الذي قضى طفولة جميلة في منطقة السلمانية المحصورة آنذاك بين البحر والزرع، فكان لها الأثر في اختياره الرياضة ممارسة ثم مهنة عملية وأكاديمية، فكان أول بحريني يحصل على درجة الدكتوراه في علوم التربية الرياضية من الولايات المتحدة وأول بحريني يحصل على الأستاذية في هذا المجال بجامعة البحرين.
ويؤكد البروفيسور الملا في مسيرة حياته التي سردها لـ «الوطن» أن البحث العلمي يستخدم في منطقتنا العربية فقط للوجاهة، رغم أنه وسيلة نقل المجتمعات وعصرنة المعيشة. وفيما يلي نص المقابلة: