اعتدت القراءة منذ الصغر. كنت ألتهم القصص القصيرة والطويلة،المجلدات القيمة، الموسوعات العلمية، وكل ما تقع عليه عيني من: الصحف والمجلات، وحتى العبارات المكتوبة على المعلبات والقصاصات الورقية. تغريني الأوراق إن وجدت وتفتنني الحروف المسجاة على الأسطر والمصفوفة بعناية قرب بعضها البعض وكأنها درع منيع يقيك من الملل والتفاهة.
من لا يقرأ لن يفهم هذه الهلوسات التي أرددها. نعم، قد يبدو كلامي ضرباً من المبالغة، أو شيئاً من الجنون الجميل، لكنني حقاً أؤمن بأن للحروف أيادي خفية تلوّح لي من بعيد، تناديني بل تترجاني حتى أنر إليها، أقرأها وأدركها. أن تدرك الكلمة لا يعني أن تمرّ عليها بعينيك فحسب، بل أن تغوص في عمقها، أن تنظر في عينيها بعمق وتدرك ما تحمله من معنى وتستشعر تميزها عن بقية الكلمات.فكل كلمة تملك طريقتها الخاصة في البوح، كل واحدة تحمل روحاً مختلفة، لا تشبه أختها. جميعهن جميلات وسحرهن لا يُقاوم.
ولأني قارئة نهِمة، أجد نفسي أحياناً أقرأ ما لا يستحق القراءة: الأخبار المملة التي أتهكم عليها في سري، والإعلانات السطحية التي تتفنن في اصطياد الزبائن، والمنشورات المكررة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تُثير غثياني وتسبب لي صداعاً لا ينتهي. أقرأ كل شيء.. ولا شيء! لأنني حين أفتش في داخلي عمّا يستحق البقاء، أجد أنني أثقلت عقلي بتفاهاتٍ لم أخترها، ومعلومات لا قيمة لها.
لهذا قررت أن أُعلن هدنة طويلة مع القراءة العشوائية التي تجعلني ألتهم كل كلمة أمامي. أحتاج هدنة أتصالح فيها مع عقلي، أُعيد فيها ترتيب رفوف ذهني، وأسمح لنفسي بالاختيار. لم أعد أرغب في أن أكون مكباً لكل ما يُكتب، عليّ أن أتعلم كيف أغض الطرف عن التفاهات، عليّ أن أتعلم كيف أقرأ بوعي أكثر وأن أكون حذرة في التعامل مع الكلمات.
فالقراءة ليست هواية نمارسها، بل مسؤولية نتحملها تجاه عقولنا. نحن نصبح مع الوقت ما نقرأه، وحياتنا تتشكل بناء على ما يجول في عقولنا، ومن لا يحسن اختيار ما يقرأ، سيستيقظ يوماً مثقلاً بالكلمات، فارغاً من المعنى.
ربما آن الأوان أن نصغي أكثر إلى صمتنا، إلى تلك المساحة البيضاء بين السطور. فليست القراءة هي ما يُنقذنا دائماً، أحياناً التوقف عن الفعل هو ما يخلق الأثر الأعمق، فحين نصمت قليلاً، سنسمع ما لم تقله كل الكتب، سنسمع صوتنا المنسي في غمرة هذه الفوضى مرة أخرى!
