لم يعد المشهد الرقمي يحتمل مزيداً من العبث. فقد امتلأت الشاشات بصورٍ لا تحمل معنى، وسلوكياتٍ لا تمثل البحرين ولا قيم أبنائها. البعض يظن أن الهوية تُختصر في مقطعٍ عابر، وأن الوجود يُثبت بصورة ملتقطة على عجل داخل سيارة أو أمام مرآة. ومع ذلك، وبعيداً عن هذا الضجيج، ظهر برنامج (قدها) ليعيد ترتيب الصورة، وليقول بوضوح هذا هو الشاب البحريني الحقيقي… لا تلك النسخ الهشة التي تُتداول بلا روح.
نجاح البرنامج وانتشاره الواسع لم يكن مجرّد متابعة ترفيهية، بل كان ترجمة حقيقية لنبض الشارع البحريني. الناس شعروا للمرة الأولى منذ زمن بأن هناك محتوى يُشرّفهم، ويُشبههم، ويُعبّر عن جوهر البحرين. فقد رأوا شباباً يقفون في الميدان.. لا في مقعد السيارة الأمامي، ولا خلف زجاج الهاتف، بل في قلب التجربة، حيث تُختبر القوة بعيداً عن الاستعراض والفراغ. من شاهد البرنامج لم يرَ (مشاركين) بل رأى أبناء وطن، شباباً يتصبّب منهم العرق لا الفلاتر، ويظهر في أفعالهم الصبر والانضباط بدل الاندفاع والضجيج. كل خطوة في التحديات كانت تعبيراً عن قيمة، وكل وقفة كانت تذكيراً بأن البحرين مازالت قادرة على إنجاب جيلٍ يرفع اسمها بفخرٍ ومسؤولية. هؤلاء لم يدخلوا ليجمعوا الإعجابات، بل ليختبروا أنفسهم.. وهذا ما لامس قلوب الناس.
لقد تعب الشارع البحريني من بعض المحتويات السطحية والهابطة التي تضرّ بصورة البلد أكثر مما تنفعها. تعب من المقاطع التي تُظهر الشاب البحريني كأنه نسخة منزوعة العمق، أو شخصية تبحث عن لفت الانتباه بأي طريقة. ولهذا، حين ظهر «قدها»، شعر الجميع أن هناك من يُعيد التوازن. أن هناك شباباً يصنعون الصورة كما يجب أن تكون: بحرينية.. واضحة.. قوية.. نظيفة. ما فعله البرنامج أنه قدّم نموذجاً، لا مشهداً. قدّم قيمة، لا إثارة. قدّم صورة لشبابٍ يعرفون أن الكاميرا ليست لعبة، وأن صورتهم لا تخصهم وحدهم، بل تخص وطناً كاملاً يقف خلفهم. وحين يتصرف الإنسان بهذه المسؤولية، يصبح وجوده إضافة لا عبئًا.
لكن الأهم من نجاح البرنامج، هو ما يمكن أن يُبنى عليه لاحقاً. ففكرة أن يمتد «قدها» ليشمل فئات أصغر (خصوصاً فئة المراهقين) ليست مجرد توسعة، بل ضرورة تربوية ومجتمعية اليوم. فجيل المراهقين يعيش مع الشاشات أكثر مما يعيش مع الواقع، يقضي ساعات طويلة خلف الألعاب الإلكترونية، وصار يستمد جزءاً كبيراً من ثقته وهويته من عالمٍ افتراضي لا يختبره ولا يعرفه. ولهذا، فإن إدماج هذه الفئة في برامج مليئة بالتحديات الحقيقية، بالحركة، بالانضباط، وبالعمل الجماعي يمكن أن يُحدث فرقاً هائلاً في تشكيل وعيهم وسلوكهم، ويعيد ربطهم بالحياة الواقعية وبمهارات الصمود والمسؤولية واتخاذ القرار. بل يمكن أن يكون «قدها» في نسخ لاحقة منصة لإعادة بناء علاقة المراهق ببدنه، وبذاته، وبقيمه، بعيداً عن الاندماج المفرط في الشاشات الذي يسرق من الجيل الكثير من فرص النمو الحقيقي. نعم، لدينا شباب يسيئون دون قصد، ولكنّ لدينا أيضاً شباباً يشرّفون البلد بوعيهم وسلوكهم وأخلاقهم. و»قدها» كشف هذه الحقيقة بوضوح: البحرين ليست بلداً يبحث عن استعراض، بل بلداً يصنع أبناءً يليقون به. وبصراحة. البحرين تستحق أن تُرى بهذا الوجه؛ بوجه الشباب الذين يقفون في الميدان لا في مقعد السيارة، ويظهرون في الصورة بصدقٍ لا باستعراض، ويرفعون اسم بلدهم بأفعالهم لا بصورهم، فهؤلاء وحدهم هم الذين يشبهون البحرين فعلاً، وهم الذين يرفعون رأسها في كل مكان.
