أميرة صليبيخ
القراءة هوايتي وهوّيتي، ولذلك كل الحروف التي أراها أعتبرها صديقة، بيننا أُلفة وعشرة، وأحتاج أن أهديها السلام، وأخصص لها وقتاً لأستمع إليها وأنصت لما تقوله وما تحمله بداخلها من معانٍ ومعلومات وقصص.
وقد اعتدت منذ الصغر أن أقرأ كل ما تقع عليه عيني في كل وقت، سواء كانت قصاصة ورقية، جريدة قديمة، كتيبات لا نفع منها، مجلات بَهَت لونها، وصفات الطعام، المعلومات الكاذبة على المعلّبات. جميعها فرصة لتزجية الوقت وإثراء المعرفة.
لكني أقف اليوم وأنا في الأربعين، أشعر بأني تحولت إلى مستودع كبير من المعلومات. معلومات أكثر مما أحتاج، وأكثر مما أريد. تتكدّس كلها بداخلي وتحتل رأسي، ولا شيء منها يخرج إلى النور، ولا وسيلة للتخلص منها!أعرف ولا أستخدم، وهذا أكثر ما يزعجني. كأنك تقرأ كل وصفات الطبخ ومع ذلك تموت جائعاً! تشعر كأنك محشور في زحمة أفكارٍ لا تملكُ منها شيئاً، لا تلمسها، لا تغّير بها العالم، ولا حتى مزاجك! المعرفة إن لم تُمارس أو تطبقّ تتحول إلى حمل ثقيل، عبء يُرهق الروح.
فأنا أعرف لماذا دُهست آنا كارينينا بأحكام المجتمع قبل أن يدهسها القطار، وأعي لماذا لم يدافع كافكا عن نفسه في المحكمة، وأتفهّم جنون فيرجينيا وولف قبل أن تغرق، وأدركُ بعمق الزمن المفقود كما فعل مارسيل بروست، وأقدّر مرارة سيوران وسخطه على الآخرين، وأستوعب تهكّم نيتشه على العالم، وأستشعر ما كتبته إليف شفق عن الحب وكأنه طريق الخلاص من جنون هذا العالم!
أعرف عن الفقد، وفلسفة الوجود، ومراحل التنوير الروحي وأساليب تحقيق الذات. أعرف وأعرف وأعرف.. ولكن ماذا بعد؟ لا شيء حولي تغيّر! لم أقل (لا) في الوقت المناسب، لم أنتصر على مخاوفي، لم أصرخ في وجه الظلم، لم أغيّر تسريحة شعري منذ عام. لم أحب نفسي كما يجب. أقف بين ما أعرفه وما أفعله، كأنني ضميرٌ حيّ مع وقف التنفيذ!
في رسالة وداع ماركيز إلى محبيه، قال «لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، فاطلب من الربّ القوة والحكمة للتعبير عنها». أما بوكوفسكي فقال «الحزن سببه الذكاء، كلما زاد فهمك لأشياء معينة، كلما تمنيت لو لم تفهمها.» الأدباء يدركون أن المعرفة قد تكون نقمة أحياناً عندما لا تُحسن التعامل معها.
أنا لست بحاجة لمعلومة جديدة بعد اليوم. أنا بحاجة لفراغ. لركن خالٍ من الضجيج أكتب فيه جملة واحدة صادقة أرفع بها راية الإنسانية. أحتاج أن أحيا ولو ليوم واحد بدون لعنة الوعي هذه.