كلما كبرت تبدأ في فهم حقائق بسيطة عميقة لم تكن لتراها أو تدركها وأنت في عمر مبكر، رغم أن هناك أساسيات كنت تؤمن بها، وتلامسها عن قرب، فالنضج الحقيقي يبدأ بوعي متسلسل، وعلى مراحل عمرية، ومن خلال ما نختبره من تجارب لا بما ندرسه ونتعلمه على مقاعد الدراسة فحسب وبما تكتسبه قلوبنا من بصيرة وحدس وفراسة تتكون لديك حسب خبرات متكررة لا بما نبصره بالنظر المحدود، وستجد نفسك وأنت تعاشر العديد من أصناف البشر والشخصيات أن المهم عندك وما تبحث عنه هو النقاء الحقيقي والجوهر الأصيل وبواطن القلوب أكثر من الظاهر، ومن ما تخرجه به الألسن.

كنا نقرأ نصاً مقتبساً مبدأه يقوم على فكرة ‏أن الإنسان يتعلم لاحقاً أن الصحة أفضل من المال، وأن الشهادة أهم من الجمال، وأن الاحترام أهم من الضحك، وأن العزلة أهم من النفاق، وأن الكرامة أهم من الحب، وأن العائلة أفضل من الرفاق، وإن لنفسك عليك حقاً، لكننا لو أردنا أن نضيف على هذه الفلسفة الفكرية فبالتأكيد أن تجارب الحياة جعلتنا ندرك أن مكمن الراحة الحقيقي عندما تكون الأرواح نقية طيبة شفافة في أي محيط تكون فيه سواء عائلياً أو اجتماعياً أو مهنياً أو ثقافياً، فمن المهم جداً أن تدرك نوعية الأشخاص المناسبين لك المتكافئين معك روحياً وفكرياً ونفسياً الذين من الممكن أن تكون أمامهم على سجيتك وعفويتك، دون أن تفسر بشكل خاطئ فالأشخاص المتنافرون معك في القيم والسلوكيات والقناعات مرهقون جداً، وسيأخذونك إلى دوامة الصراعات النفسية والفكرية الدائمة، وإلى خانة «لم أقصد، لم تفهمني، أريد التوضيح لك!».

عندما كبرنا قليلاً أدركنا أن كل الطرق لا تؤدي إلى روما، بل لما ترغب به بسبب طريقة تفكيرك، وأنك مخير لا مسير، وكل ما أنت عليه بسبب قلة وعي ونضوج واختياراتك أنت لا اختيارات الحياة لك.

وستدرك وتعرف أن كل مشكلة وقعت فيها لم تأخذ من قوتك شيئاً، بل صنعت منك شخصاً أفضل، دون أن تشعر وكل أزمة عدت، وإن أخذت منك الكثير من الجهد والوقت وحتى الصحة النفسية، لكن بالمقابل منحتك أكثر مما أخذت منك، وتحصلت من ورائها على شهادة خبرة في الحياة محال أن تصدرها لك أكبر جامعة في العالم، وكل شخص خبيث مر بك جعلك تصبح أكثر نظافة ووعياً وخيراً للناس والأهم أنك أصبحت ذا مرونة نفسية عالية جعلتك تتفهم اختلافات البشر وأنماط شخصياتهم، وتتفهم كذلك الشر الموجود فيهم، وتتقبله وتكتفي بتجنبه، ولا تسعى لتغييره؛ لأنه «ولله في خلقه شؤون»!.

كل ما تكبر تفهم أن راحة بالك أهم من أي نقاش أي علاقة وأي إثبات وليفهم كل شخص ما يريده عنك؛ لأنه في النهاية ميزانه ومقياسه لك دائماً ما يكون من زاوية تفكيره ونظرته للأمور وأنت كإنسان ليس لك شأن في هذا!

كل ما تكبر وتعاشر الناس لن يهمك الشكل ولا الاسم ولا اسم عائلتهم أو قبيلتهم ولا المنصب ولا إنجازاتهم المهنية ولا مظاهرهم ولا ما يملكون ولا ما لا يملكون ولا قشورهم الخارجية التافهة التي حصلوا عليها بديهياً أو بسبب محسوبياتهم أو واسطاتهم، ولم تأتيهم من تعب، كل هذه الأمور مع النضج الفكري سترى أنها ليست عميقة، ولا تخدم عمق روحك وخط مسيرك في الحياة، بل ستصبح أكثر قدرة على تمييز الحقائق المخفية والجانب الآخر من الكأس، وأنت تتعامل مع الأشخاص، وستعرف الفرق جيداً بين شخص بنى نفسه بنفسه بتعب وجهد، حتى وصل إلى ما وصل إليه وشخص فارغ مكنته الظروف والبيئة، وساعدته عوامل أخرى وامتيازات جاءت له على طبق من ذهب دون أدنى تعب وهنا ستلاحظ وتميز الشخصية المصقولة بالتجارب «اللي حكتها الدنيا» والشخصية الركيكة التي لا عمق لها في أي شيء ومجرد ديكور فكري سطحي وأمام هذه الحقائق ستصل إلى قناعة عميقة جداً مفادها ما فائدة المظهر الحسن والخواء الروحي الداخلي والشخصية التافهة المهزوزة التي لا يمكن لك أن تستند عليها لا فكرياً ولا روحياً ولا ثقافياً؟

ما فائدة الشخصية التي تبهرك خارجياً بما تمتلكه وهي في الحقيقة شخصية تابعة لمحيطها السام لا تمتلك لا وعي ولا نضج ولا عمق فكري، ولا تضيف لك وكل ما تعمله هو تضييع وقتك وساعات يومك؟ سيهمك عندما تكبر أن تكون مع ناس راقية أرواحهم نظيفة نقية ملهمة لك تحرك جوانب الإبداع بداخلك، تحترم وتقدس العلاقات الإنسانية الراقية باختصار ناس من أهل الله مشغولين بأنفسهم لا بغيرهم ليس بهم لا خبث ولا حسد ولا حقد ولا نية شر.

عندما تكبر ستضع القيم الروحية والأخلاقية فوق المظاهر الاجتماعية، وستهتم وبشدة أن يكون الشخص واعياً لا متعلماً فقط، وأن يخاف الله في الخفاء والسر قبل العلن وأمام الناس فقط، وأن يكون متديناً بالجوهر لا المظهر، ولن يكون تقييمك للإنسان الصالح من الفاسد من مظهره الخارجي وما يدعيه أمام الناس، سيهمك الشخص ذو التأثير والمكانة على المحيطين به لا مجرد امتلاكه لمنصب شكلي ذليل به، وأن يكون غني النفس كريم الطبع لا غني المال بخيل دنيء الطباع وأن يكون صادقاً ذا ضمير حي لا كذاب.

شاركها.