حين تضيق بنا الحياة، ونجد أنفسنا وسط عاصفة لا نعرف متى تهدأ، قد يكون القلم هو طوق النجاة الأول. فالتعبير الكتابي ليس ترفاً، بل علاج نفسي عميق يعيد ترتيب الفوضى داخلنا، ويمنحنا القدرة على النهوض من جديد. وقد تكون الكتابة العلاجية باستخدام الكتابة الحرة أو الموجهة للتعبير عن الأفكار والمشاعر بهدف تعزيز الوعي الذاتي وتحقيق التفريغ الانفعالي وإعادة البناء النفسي.
تُظهر دراسات علم النفس أن الكتابة التعبيرية تساعد على شفاء الجروح النفسية، والتنفيس الانفعالي، لأنها تتيح لنا أن نرى ما يحدث من الخارج بشكل أكثر موضوعية بعيداً عن عمق الألم. فحين نكتب، نحن لا ندوّن فقط ما مررنا به، بل نعيد صياغة التجربة بمعنى جديد، ونبحث في مخارج النجاة. لنكتشف أننا أقوى مما ظننا. فالمطلقة التي تسكب دموعها على الورق، قد تدرك فجأة أن انفصالها لم يكن خسارة، بل فرصة لتعيد بناء ذاتها، والشخص الذي يواجه المعاناة من المرض أو الخوف من الفقد يكتشف بالكتابة أن هذه المعاناة ليست نهاية فصل في الحياة، بل بداية فصل جديد لإعادة اكتشاف الحياة وإيجاد معنى عميق لها، والشخص الذي يخسر أمواله يدرك أن المرور بالأزمة كان فرصة للنمو فالكتابة قد تلهمه أن يبحث في مسار جديد لحياته مختلف ولكنه أكثر فائدة.
فالكتابة هي أحد أشكال إعادة «التقييم المعرفي» كما وصفها بعض علماء النفس، أي إعادة النظر في الأزمة بحيث تخف وطأتها، فنستطيع رؤيتها بعدسة أوسع وأهدأ.
إن الكتابة تمرين على «التفكير المرن»، الذي يفتح أمامنا بدائل جديدة لنصبح أكثر وعياً ودراية بمشكلتنا، وأكثر قدرة على التعايش معها، أو الخروج منها متعافين بدل أن نحاصر أنفسنا في زاوية الألم.
أما من الجانب الانفعالي، فالكتابة تمثّل نوعاً من التفريغ العاطفي، فهي تسمح لنا بإخراج ما لا نجرؤ على قوله، فتتحرر مشاعرنا من الاحتقان. ومع الممارسة، تنمّي فينا ما سماه Seligman بـ«التفاؤل المتعلّم»، learned optimism ذلك الإيمان بأن وراء كل تجربة درساً، ووراء كل انكسار بداية جديدة.
ليست الكتابة حكراً على الأدباء، بل هي صديقة لكل قلب مثقل يبحث عن متنفس. عشر دقائق من الكتابة اليومية قد تكون أكثر نفعاً من ساعات الصمت، لأن الحروف تُنقذ ما يعجز عنه الكلام.
اكتبْ لتفهم، لا لتُقنع أحداً. اكتب لتشفى لا لتستعرض، ليلتئم جرحك وتخفف وجعك، فحين تُمسك القلم، تكتشف أن أعظم نص تكتبه هو نسخة جديدة من نفسك.. تلك التي خرجت من بين سطور الألم أكثر صفاءً ونضجاً وثباتاً وطمأنينة.
* أستاذة جامعية في علم النفس
