نداء إنساني في يوم الأمم المتحدة
بقلم: د. عبدالله بن أحمد آل خليفة
الأمل ينبعث من الألم.. هذه حقيقة تواكب كل أزمة قاسية تمر بها البشرية باختلاف الزمان والمكان، ففي عالم يعج بالمشكلات والتحديات يتطلع الناس إلى حياة أفضل، أملاً بأن تأتي المنح من المحن، وأن يشع النور الذي يبدد الظلام. وهذا الأمر ينطبق على إنشاء منظمة الأمم المتحدة في أعقاب حرب عالمية طاحنة كان لها كلفة بشرية ومادية باهظة، فكان ميثاق المنظمة بمثابة خارطة طريق للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، ومنع نشوب حروب وصراعات جديدة.ويأتي احتفالنا بيوم الأمم المتحدة، ومنطقتنا تمر بظروف استثنائية غير عادية تناقض كل منطق ورشد، فآلة القتل لا تتوقف عن حصد أرواح الأبرياء، وتزيد من معاناة المدنيين، في ظل نكبة جديدة مؤلمة تثقل الضمير الإنساني.وإذ نستذكر كيف خاضت الأمم المتحدة، على مدى يناهز ثمانية عقود، أدواراً تاريخية وناجزة، للدفاع عن شرعية المجتمع الدولي، وكمعبر عن الإرادة الإنسانية، فإن المنظمة الأممية تواجه في الوقت الراهن تحديات خطيرة، بعد أن أصبحت الأزمات أكثر تعقيداً وتنوعاً، يرافقها انتقائية في تطبيق القانون الدولي وازدواجية المعايير، فضلاً عن صراع محتدم على النفوذ والمصالح، بما يثبت أن أهداف ومقاصد الميثاق مازالت بعيدة المنال.إن الطريق لتحقيق الآمال يكمن في القدرة على الإيمان بأننا ننتمي لإنسانية واحدة، وأن نعمل معاً لفتح آفاق التعارف والتلاقي. وأود أن أغتنم هذه المناسبة، لأطرح عدداً من الأسس والمنطلقات التي يأمل مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي أن تسود عالمنا في إطار العمل الجماعي متعدد الأطراف، وهي:أولاً: الالتزام بالمبادئ والقواعد التي تأسست عليها الأمم المتحدة، والعمل المشترك والحثيث، لتهيئة البيئة المناسبة للأمن والسلام، وذلك عبر تعزيز الحوار والتفاهم بين الدول، استناداً إلى قيم العدالة والمساواة.ثانياً: إعداد رؤية معرفية وتقنية للعقدين القادمين، بمساهمة رموز وقيادات عالمية، يتمخض عنها برنامج عملي للشراكة والتعاون، يتجاوز الأعراق والأجناس، ويرتقي فوق العنصرية والكراهية، وألا نسمح لمعاول الهدم والإرهاب، بعرقلة جهودنا أو تقليل عزمنا من أجل تطوير فاعلية النظام الدولي.ثالثاً: إطلاق تسويات شاملة وواقعية تستند إلى مرجعيات وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتقوم على توافق الأطراف المعنية، بهدف حل النزاعات الممتدة والناشئة، لحماية الشعوب من ويلات الحروب والتبعات الكارثية لها.رابعاً: إصلاح هيكل النظام المالي العالمي، وهو أمر ملح وضروري، لكي يتقاسم الجميع الفرص، بما يضمن تدفق الموارد اللازمة للنمو الاقتصادي، والاستثمار في التكنولوجيا الحديثة، ودعم الابتكار والحوكمة.واتساقاً مع هذه الأوقات الصعبة، صاغت الرؤية الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظم «إعلان البحرين» كمنهاج عمل لاستعادة السلام العالمي، وترسيخ الاستقرار والتنمية المستدامة، فقد دعا جلالته إلى عقد مؤتمر دولي موسع وعاجل لإقرار السلام في الشرق الأوسط، وهي الدعوة التي تبنتها القمة العربية الثالثة والثلاثون بالمنامة.وفي رسالة مباشرة وذات مغزى، أعرب صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، خلال القمة الخليجية الأوروبية التي عقدت في بروكسل، عن تطلعه لإجراء إصلاحات هيكلية في المؤسسات العالمية، بما فيها الأمم المتحدة، لضمان استجابتها للتحديات المتغيرة.إن مملكة البحرين كبلد فاعل ومؤثر، تمثل صوتاً للحق والحكمة، انطلاقاً من هوية وطنية عريقة وأصيلة، أهلتها للقيام بدور حيوي ومسؤول تجاه القضايا الإقليمية والدولية، ورعاية الوسطية والاعتدال.وفي هذا الإطار، شاركت المملكة في صياغة «ميثاق المستقبل» الذي اعتمده قادة العالم مؤخراً، بهدف إعادة تأكيد المبادئ المشتركة، وتعزيز التفاعل لمواجهة التحديات، ودعم الفرص الواعدة للأجيال القادمة.وفي يوم الأمم المتحدة الذي يتزامن مع أسبوع نزع السلاح، أتوجه بنداء لتكريس التسامح والسلام في العالم من خلال التكامل بين مشتركات «الدين، والتعليم، والثقافة، والإعلام، والدبلوماسية» باعتبارها آليات فاعلة لمساندة العمل الدولي متعدد الأطراف، وإيجاد البيئة المناسبة لبناء ثقافة السلام والأخوة الإنسانية.إننا بحاجة ملحة إلى إعلاء مقاصد الأمم المتحدة، لمكافحة خطابات الكراهية وأيديولوجيات التطرف، وحل النزاعات بالوسائل السلمية، وهذا يتطلب أن تربح البشرية معركة الوعي والتحضر، وأن تدرك أهمية التنوع الثري في تحقيق التفاهم والتنمية، بالإضافة إلى بناء شراكات الحوار والتقارب بين الأديان والثقافات.إن عالمنا واحد.. ونريد أن نكتب فصلاً أكثر إشراقاً، ومفعماً بالأمل عنوانه «مصير مشترك» ومضمونه تكاتف الجميع لإرساء القيم النبيلة. وهذا هو جوهر رسالة مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي، الذي ينهض بمسؤولياته الإنسانية، وفي مقدمتها: حمل مشاعل السلام والتنوير، والمساهمة في إيجاد عالم ينعم بالوئام والازدهار.
*رئيس مجلس أمناء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي