في البداية، لنقم بتعريف ما هي الأمراض الاستقلابية. هي أمراض ناتجة عن نقص في بعض الخمائر (الإنزيمات) التي لها دور أساسي في عملية الأيض الخلوي، أي إمكانية الخلايا في الجسم من هضم بعض المركبات الحيوية. عملية الأيض هي التي تمكن الخلايا من استخلاص الطاقة المطلوبة لحياة هذه الخلايا.
وتشمل عملية الأيض عدداً من التفاعلات الكيميائية في الخلايا تحفزها هذه الإنزيمات. اذا، في هذا التفاعل الكيميائي هناك مركب يتم تحويله إلى مركب آخر والإنزيم هو الوسيط الذي يمكن هذا التفاعل من العمل. لذا عند توقف عمل أحد هذه الإنزيمات، يتوقف التفاعل مما ينتج عنه تراكم المركب الأساسي الذي يتم هضمه ويشح المركب الذي ينتج عن عملية هذا الهضم. ونتيجة لذلك يحدث اختلال في الأيض. نتيجة لذلك، فإن تركيز المركب الأساسي يتراكم بحيث يفوق التركيز الطبيعي، وقد يكون ذلك مضراً للخلية، ومن ناحية أخرى، شح المواد الناتجة قد يؤدي إلى توقف تكوين مركبات أساسية مطلوبة لبناء الخلية أو مؤثرة على استخلاص الطاقة المطلوبة للخلية لمتابعة الحياة.
يبلغ عدد ما تعرف بالأخطاء الخلقية في التمثيل الغذائي (الأمراض الاستقلابية في حديثي الولادة) ما يفوق 1400 مرض وهي في الأغلب وراثية. وينتج ذلك عن طفرات في الحمض النووي (DNA) الذي يؤدي تباعاً إلى إنتاج إنزيمات متضررة غير قادرة على القيام بعملها المطلوب. ويتراوح عالمياً معدل الإصابة بأي من هذه الأمراض بين واحد من كل 1000 إلى 5000 مولود. بالإضافة إلى ذلك، من الممكن في بعض الحالات أن يصاب المولود بأكثر من نوع من هذه الأمراض في وقت واحد.
العوامل التي تؤدي إلى ارتفاع نسبة الإصابة بالأمراض الوراثية هي المجتمعات الصغيرة، والمعزولة نوعا ما، وارتفاع نسبة زواج الأقارب. حيث إنه في هذه الظروف تستوطن الطفرات الموجودة في المجتمع. وحيث إن إصابة المولود بهذه الأمراض يتطلب أن يرث الطفرة من كلا الأبوين، فإن إمكانية حدوث ذلك في مجتمع صغير ومغلق تصبح نسبتها أعلى.
ونظراً لصغر مجتمعات دول الخليج العربية وانتشار زواج الأقارب الذي كان يصل إلى حوالي 50% من الزيجات منذ حوالي 30 سنة، فإن هذه الأمراض الوراثية كانت شائعة أكثر. أما اليوم، فبعد تطبيق نظام الفحص قبل الزواج في البحرين والوعي المجتمعي عن أخطار ذلك، فقد تدنت نسبة الزواج من الأقارب في البحرين لتلامس 10% فقط. ولكن بالرغم من ذلك، فإن نسبة المصابين بالأمراض الاسقلابيه من المواليد ما زالت مرتفعة أكثر من أغلب دول العالم. وقد أجرى مركز الأميرة الجوهرة البراهيم للطب الجزيئي وعلوم الموروثات والأمراض الوراثية التابع لجامعة الخليج العربي دراسة على حوالي 5000 من حديثي الولادة البحرينيين وتم تحليل 38 مرضاً استقلابياً وتبين أن 19 من الأطفال مصاب بأحد الأمراض الاستقلابية مما يعطي نسبة واحد من كل 262 مولوداً حديثاً (أي حوالي أربعة لكل 1000 مولود)، وذلك يفوق النسب العالمية (1 من 1000 إلى 1 من 5000) ما بين 4 إلى 20 مرة!
ما العمل إذاً؟ وهل بالإمكان حماية مواليدنا من أخطار هذه الأمراض؟ الجواب هو نعم، حيث إنه من خلال الفحص المبكر بالإمكان معرفة الأمراض الكامنة في المولود الحديث وبالإمكان في أغلب الاحوال تلافي عواقب هذه الأمراض والأضرار الناتجة عنها.
طريقة الفحص بسيطة حيث يتم الحصول على نقطة دم واحدة فقط من كعب رجل المولود خلال 24 إلى 48 ساعة من الولادة. نقطة الدم هذه كافية لإجراء جميع الفحوصات اللازمة وبإمكانها أن تقي المولود من المضاعفات في حال كان مصاباً بأحد هذه الأمراض الاستقلابية.
هذا الفحص متوفر في مركز الأميرة الجوهرة البراهيم للطب الجزيئي وعلوم المورثات والأمراض الوراثية حيث يقوم المركز حالياً بإجراء العديد من هذه الفحوصات أسبوعياً من عينات ترده من العديد من مستشفيات المملكة الحكومية والخاصة. وبإمكان الوالدين طلب إجراء هذا الفحص على مولودهم من خلال المستشفيات، أو في مركز الجوهرة نفسه والكلفة بسعر معقول، وفي متناول جميع العائلات. وبالإمكان الاتصال بمركز الجوهرة للحصول على معلومات إضافية. ومن المحبذ أن تقوم جميع الأسر بالاستفادة من هذه الفرصة لضمان صحة مولوديهم. والله الموفق.
وننتقل من الجهود الشخصية لتحديد حديثي الولادة المصابين بهذه الأمراض لنتساءل إذا كانت للدول مسؤولية في هذا المجال، فالأطفال هم مواطنو المستقبل. من المؤكد طبعاً أن لوزارات الصحة في جميع دول العالم دوراً مهماً في حماية الجيل الصاعد. لذا فقد شرعت عدد من دول الخليج العربية بإلزامية فحص حديثي الولادة للأمراض الوراثية بما يشمل الأمراض الاستقلابية على نفقة الدولة للمواطنين. وقد شرعت ذلك دولة قطر منذ سنة 2003، والمملكة السعودية منذ 2005، والإمارات العربية المتحدة منذ 2011، والكويت منذ 2014، وأعلنت سلطنة عمان عن نيتها بدء هذا البرنامج في 2026. وما زال القرار لم يتخذ في مملكة البحرين حتى الآن!
أتمنى أن يلهم هذا المقال جميع حديثي الزواج لاتخاذ اللازم لحماية مولوديهم وتعم الفائدة عليهم، وعلى أطفالهم وعلى مملكتنا الحبيبة.
* أستاذ الأحياء الدقيقة والمناعة المشارك كلية الطب والعلوم الصحية جامعة الخليج العربي