عصام كامل يكتب : الواهم الذي أصبح حقيقة | مقالات | بوابة الكلمة
ارتفع الصوت بشكل لم أعد احتمله، وبعد دقائق من صمت كان يغلف المكان، عاد صاحب الصوت ذاته إلى إطلاق حنجرته بشكل أكثر استفزازًا.. كان شابًا، ربعًا، ذا ملامح مميزة بوجه عريض وصدر منتفخ وعيون تناسب لون بشرته التي تخرج من القمحى لتميل إلى بياض لا تختلط به حمرة.
كان على طريق الصحافة قد ألقى بأحلامه متلمسًا “السكة” مع تجربة انتقال صدور جريدة الأحرار من النسخة الأسبوعية إلى اليومية وكانت تباشير شهر فبراير من العام 1994 قد أطلت مع عدد وافر من شباب حالم جاء إلى 19 شارع الجمهورية حيث شقتين بالطابق الرابع تضمان بين جدرانهما مئات المتدربين.
على عتبات الدرب جاء من جاء عشقًا لصاحبة الجلالة وغادر من غادر هربًا من كابوس الحلم ووفد إلينا من شتى محافظات مصر أعداد كانت من الوفرة وكأنك تشكل مجموعة أولتراس لفريق كرة قدم جاء إلى المسابقة يتلمس للبطولات طريقا.
كان هو على غير طريقة الجميع، إذا دخل المقر صحبته جلبة وصخب لا يمكن لك أن تتجاهله، وإذا غادر فكأنما يودع المكان بضحكة عالية الصوت أو وداع لزميل لا يعرفه وهو يصافحه وكأنه يهز جبلاً أو يهدم جدارًا.. كان لمن لا يعرفه مستفزًا أقصى درجات الاستفزاز.
على مكتبي أوراق وصحف وبعض كتب وملف يضم بين دفتيه بعض أعمال صحفية لعدد من هؤلاء المنضمين إلى كتبية الأحرار الحربية.. نعم كانت تشبه ثكنة عسكرية بلا ضابط ولا رابط.. كل من حلم بأن يصبح صحفيًا جاء إلى هنا.. امتلك الموهبة أو عدمها.. المهم أن لديه بعض خيالات تدعوه لأن يصبح مصطفى أمين.
وفي زمن لم تفرض فيه رسوم على الأحلام كان العدد في الليمون كما يقولون.. الطامحون كثر والواهمون أكثر وكنت قد ظننت، وبعض الظن إثم، أن صاحبنا هذا الذي يزعجنى كثيرًا بصوته واحد من الواهمين، وكنت أصبر نفسي بأنها كلها أيام ويخرج من هنا بغير رجعة ويريح ويستريح.
ما كان يزعجنى فيه أنه زاعق الصوت أثناء الفرح وزاعق الصوت أثناء الغضب وزاعق الصوت عند مجرد مصافحة زميل وربما كان زاعق الصوت عندما يحلم.. لم يكن صوته يخفت أبدًا ولم يكن يرد التحية بنفس تون الصوت.. كان مجلجلاً بزيادة.
قلبت كومة الأوراق فرزا لما يمكن أن يكون عملاً صحفيًا يستحق بذل مجهود والعمل عليه وتقديمه للقراء.. كلها أعمال بكر من تنفيذ طامحين وواهمين.. أوراق تدعوك إلى الغوص فيها وأخرى تطردك من أول سطر وللأمانة كان الطاردون أضعافًا.
شبه تقرير صحفى أذكر أنه كان عن تحريك في بعض أسعار السلع.. عنوان جذاب وسطور غامضة تشبه إلى حد كبير الأشعار النثرية التي تتحدث عن أن القمر قمر والأرض أرض والسماء سماء.. لم أفهم شيئًا من المكتوب فبحثت عن كاتبه وكانت المفاجأة.. إنه هو الشاب صاحب الحنجرة المتمردة على الهدوء.
كانت فرصة أن أقلبه أمامي يمينا ويسارًا وأقتص منه ومن صوته الجهورى.. جلس أمامي وأنا أمعن في قراءة النص الغامض الذي كتبه وقبل أن أنال منه وهي فرصة عظيمة قال بنفس الصوت: أمال إحنا جايين هنا ليه يا أستاذ..عشان تتقوا ربنا فينا وتعلمونا!
لم أتمالك نفسى من الضحك، بعد لحظات كان هو قد تملك منى وأضحى صوته العالى محببًا إلىّ وصرت في مرماه وهو يلقننى درسًا مهمًا في واجب من يعرف على من لا يعرف، للحظة شعرت إننى أمام شخص مختلف وأن المساحة بيننا ستتمدد.
هو من أول الحضور صباحًا، يتلقى تكليف العمل ثم يخرج ليعود قبل الرابعة عصرًا ليكتب ما كان مكلفًا به وهو يشخط عند الكتابة ويشخط عند القراءة وهو في حركة داخل المقر أو خارجه على سجيته الغريبة والمدهشة ولا يستطيع أحد أن يغير منها أو يتحكم فيها.
بعد شهور قليلة من هذا الدأب والجهد والالتزام لم يعد واحدًا من الموهومين.. أصبح مخبرًا صحفيًا واعدًا.. وقد كان.. أصبح واحدًا من أمهر صحفيي جيله في الحصول على المعلومة وإدارتها والعمل عليها ليصل إلى أعماق جديدة وهكذا أصبح واحدًا من المقاتلين ضد الفساد والمفسدين.
فتح ملفات مافيا استيراد اللحوم وكتب عددًا من الملفات عن فساد الأغذية ومع مرور الأيام أصبح من العارفين بأدق تفاصيل ملف التموين في مصر ومن مشاكساته مع وزير التموين في ذلك الوقت الدكتور أحمد جويلي عليه رحمة الله إلى أن يصبح واحدًا من أقرب المقربين إليه.
ومع قرابته من الدكتور جويلي لم يكن هذا القرب علامة انقياد للوزير أو استسلام لوجهة نظره.. كان هو أكثر محررى التموين معارضة للوزير وكاشفًا لأسرار الوزارة وكم من ملفات للفاسدين في الوزارة كان هو من فجرها وكتب عنها وصولاً إلى التحقيق فيها.
أصبح مع الوقت هو حمامة السلام بين الفرقاء وأصبح هو المقرب إلى الجميع وهو رغم قربه قد يختلف معك في لحظة ويصالحك في اللحظة التالية فإن عاداك وغاب عنك، فهو المبادر بالمصافحة عند أول لقاء.. قلب يتسع للكون كله وحنجرة تخرج ما فى الجوف إلى العلن حيث لا خزائن لحقد ولا حبس لغل.
بعد سنوات أراد أن يشرف على ملف أخبار وزارة الطيران ومطار القاهرة ومصر للطيران ولم تمض سوى شهور قليلة ليصبح واحدًا من أهم وأشطر الصحفيين في هذا المجال ومع الأيام يعايش تجربة تطوير ميناء القاهرة الجوى ويبقى هو الصحفى الأقرب إلى الفريق أحمد شفيق.
وقامت الثورة وانقلبت أحوال المهنة رأسًا على عقب وظل هو قابضًا على إرادته في الاستمرار..عاش حياة حافلة بالعمل الجاد والاجتهاد والشقاء ومضى دون خوف فأصدر صحيفة الكلمة.. معها عاش آخر أيامه وعلى صفحاتها كتب آخر سطور رحلته ليرحل عنا في العشر الأواخر من شهر كريم.
عن صديقي الكاتب الصحفى الكبير هشام جاد كانت سطورى الماضية أما الباقي من الحياة فهي بالتأكيد صور من ذاكرة طالما احتفظت بالكثير من التفاصيل الممتعة في رحلة العمر الغامضة. (نقلاً عن موقع فيتو)