من أشهر الأنواع الفنية التي ابتكرتها هوليوود ما يعرف بالكوميديا العاطفية أو الرومانتيكية Romantic Comedy التي يختصر أحياناً بـrom-com، والذي ازدهر في فترات بعينها مثل ثلاثينيات وتسعينيات القرن الماضي، وتراجع في فترات أخرى مثل سبعينيات القرن الماضي والعقد الثاني والثالث من الألفية الجديدة.
وربما يكون قد تطور لمواكبة العصر بأعمال أكثر حسية وسبراً للأغوار المعقدة من النفس البشرية مثل سلسلة أفلام Fifty Shades، التي تواصلت ما بين 2015 إلى 2018، ولعبت بطولتها الممثلة داكوتا جونسون.
مولد صانعة أفلام
منذ عامين قامت مؤلفة ومخرجة اسمها سيلين سونج، كندية كورية الأصل، ومقيمة في أميركا، كتبت عدة مسرحيات، ولم يسبق لها أن صنعت فيلما سينمائياً، بكتابة وإخراج فيلم بعنوان Past Lives حقق نجاحا هائلاً نقدياً وجماهيرياً وعرض في الكثير من المهرجانات منها صاندانس وبرلين وسياتل، ورُشح لعشرات الجوائز، منها الأوسكار، وفاز بعدد كبير من هذه الجوائز، كما اختاره بعض النقاد كأفضل فيلم في 2023، ومنهم نقاد مجلة Sight & Sound البريطانية.
هذا النجاح دفع هوليوود إلى دعوة سيلين سونج لصنع فيلم أضخم إنتاجياً ومرصع بكبار النجوم، وكانت النتيجة فيلم Materialists الذي بدأ عرضه مؤخراً، وشارك في بطولته ثلاثة من أحب نجوم هوليوود وهم كريس إيفانس (Captain America) وبيدرو باسكال (Mr. Fantastic)، بجانب داكوتا جونسون شخصياً، التي تلعب هنا دوراً يختلف كثيراً عن دورها في سلسلة Fifty Shades، وإن كان يشترك معه في كونها امرأة جذابة في مفترق الطرق بين عدد من علاقات الحب، العاطفية والطيبة حيناً، والحسية والخطرة حيناً آخر، لكن النبرة والمعنى واللغة السينمائية مختلفين تماما بين Fifty Shades و Materialists.
سماء الرومانتيكية وأرض الواقع
سيلين سونج قدمت في Past Lives فيلماً شديد النعومة مستمد من أسطورة الحب الأول، حول امرأة كورية تهاجر مع عائلتها إلى الولايات المتحدة، لم تنس أبدا حب طفولتها وصباها المبكر في كوريا، حتى عندما تتزوج رجلاً أميركيا مثالياً، يتفانى في حبها، وبمجرد أن يظهر حبيب طفولتها في حياتها مجدداً، تجد نفسها متعلقة به بشدة، ويتبين أنه أيضا لم ينسها ويحتفظ في قلبه بحبها.
يلتقي الثلاثة، الزوجان والحبيب الكوري، لقضاء يوم في أحد المنتزهات، تبدو قصة الحب مستحيلة، بعد أن انفصلت حياتيهما في طريقين متوازيين، ولكنهما يتمسكان بأسطورة العود الأبدي، والأرواح التي تلتقي حياة بعد أخرى، على أمل أن يلتقيان مجدداً، في ظروف أفضل، خلال حياتيهما المقبلة!
سونج رغم نظرتها الواقعية الحادة للعلاقات العاطفية وتأثير الظروف الاقتصادية والاجتماعية عليها، إلا أنها شديدة الرومانتيكية.
هذا الخليط الغريب بين الواقعية والمثالية يصنع نوعاً من الألم العذب، والمرارة الحلوة، التي صبغت Past Lives، وتغلف Materialists وتعطيه مزاجاً فريداً، كأنه خليط من قسوة واقعية Revolutionary Road، إخراج سام ميندز، 2008، ونعومة عاطفية In the Mood for Love، إخراج وونج كار- واي، 2000.
علاقات خطرة
لوسي (داكوتا جونسون) تعمل “خاطبة” في شركة زيجات، تلتقي ذات حفل زفاف برجل الأعمال الوسيم هاري (بيدرو باسكال)، كما تلتقي خلال الحفل نفسه بزوجها السابق جون (كريس إيفانز)، الذي يعمل نادلاً بالحفل، ليجمع بعض المال ليعينه في ملاحقة حلمه المتعثر بأن يصبح ممثلاً. نعلم عن طريق “الفلاش باك” أن لوسي وجون انفصلا بسبب الظروف المادية الصعبة التي يعاني منها جون.
وبينما تدرك لوسي أنها لم تزل متعلقة بحب جون، تستجيب لمغازلات هاري، الذي يسحرها بنمط الحياة الفاخرة التي يعيشها، ومثلما نجد في Past Lives تواجه لوسي الاختبار الصعب بين اختيار الحب المتعب أو الحياة المريحة.
تتقاطع قصة لوسي مع بعض قصص الباحثات والباحثين عن المواعدة، وتتأزم الأمور حين تتعرض إحدى عميلاتها للاعتداء من قبل رجل رشحته لوسي لها، في الوقت الذي تكتشف فيه بعض الأسرار المقلقة في حياة هاري.
على الورق يبدو Materialists ككوميديا عاطفية هوليوودية تقليدية، وهو كذلك بالفعل في بعض النواحي، خاصة السيناريو، ولكن السيناريو ليس هو الفيلم، وMaterialists برهان على أن الطريقة التي ينفذ بها السيناريو سينمائياً هي التي تعطي لأي فيلم ليس فقط قيمته الفنية، ولكن تأثيره ومعناه.
في التنفيذ، فإن الفيلم داكن الألوان ومثير للخوف بعض الشيء، بسبب أسلوب تصويره المائل للإظلام والظلال وأداء الممثلين الذين يبدون جميعاً، وعلى رأسهم داكوتا جونسون، وكأنهم يعانون من الوحدة والحزن، وغير قادرين على الشعور بالسعادة أبداً.
هشاشة المادة وسراب الحب
منذ الدقائق الأولى في الفيلم، التي تقوم فيها لوسي بلقاء بعض الباحثات والباحثين عن شريك، يبدو الحب والعلاقات العاطفية مجرد حسابات رياضية، تجيدها لوسي، وتعرف كيف تقنع عملاءها بقبول أفضل المعروض عليهم، كأننا في سوق للعواطف.
ورغم السطح الكوميدي الذي تصور به هذه المشاهد، لكنها تخفي حقيقتين أساسيتين يشعر بهما المشاهد: أن المادية أصبحت تحكم كل شيء، أو لعل الأمر كان كذلك طوال الوقت، والمادة كانت وستظل عنصراً أساسياً في اختيار المرء لشريكه العاطفي، ومن هنا عنوان الفيلم Materialists الذي يفسر هذا المعنى.
الحقيقة الثانية هي أن الحب نفسه، كمصدر للسعادة، يبدو سرابا يستحيل الوصول إليه. العميلة التي تتزوج في بداية الفيلم تبكي ليلة زفافها بدون سبب مفهوم، بالرغم من حصولها على “عريس” مثالي، مليونير وسيم.
العميلة التي تتعرض للاعتداء تفقد ثقتها في نفسها والعالم لبعض الوقت، ولكنها لا تكف عن مطاردة الحلم بالحصول على رجل قبل فوات الأوان. ولوسي نفسها التي تختار في النهاية بين الرجلين، مقدر لها أن تكون تعيسة في الحالتين، لأن المرء، كما تقول لإحدى عميلاتها، لا يمكن الحصول على كل شيء.
هذا الشعور الدائم بأن هناك شيئا مفقوداً، وأن العلاقات التي نراها هشة لدرجة أنها قد تتحطم في أي لحظة أمام أعيننا، ربما يتعارض مع نوع الكوميديا الرومانتيكية التي تحمل عادة إيماناً أعمى بالحب وبإمكانية السعادة إلى الأبد.
هذا الشعور قد يكون مربكاً ومرهقاً للمشاهد، ولكن Materialists ليس من النوع الذي يسعى إلى التزلف لمشاهديه وإرضاءهم على حساب رؤية صانع الفيلم.
تجيد سيلين سونج تصميم المشاهد الرومانتيكية، كما فعلت ببراعة في Past Lives، كما تجيد رسم الظلال والشكوك والهموم التي تخيم على هذه الرومانتيكية وتهدد استمرارها، ليس المشاكل المادية فقط، ولكن اختلاف الخلفيات الاجتماعية والنفسية التي يأتي منها الفرد، واختلاف الطباع التي تتناقض وتتضارب أحياناً، وقبل ذلك كله حجم ونوع التوقعات التي يريدها كل شريك من الآخر.
بضربات فرشاة سريعة ترسم سونج بانوراما للعلاقات العاطفية اليوم، ببرود جراح وقلب فراشة حالمة.
* ناقد فني