اخر الاخبار

Nosferatu.. المسخ امرأة ومصاص الدماء الضحية!

أكثر من 100 عام تفصل بين النسخة الأولى من Nosferatu التي أخرجها الألماني فريدريش فيلهلم مورناو (Nosferatu- Eine Symphonie des Grauens أو “نوسفراتو- سيمفونية الرعب”، 1922)، عن النسخة الأحدث التي تحمل توقيع المخرج والمؤلف روبرت ايجرز، والتي تحمل فقط اسم Nosferatu.

مع ذلك، فحين يقارن المرء بين نسخة الأبيض والأسود الصامتة القديمة والنسخة الأحدث، المصورة بأحدث المعدات ومدعمة بأفضل التقنيات البصرية والصوتية، فإن الفارق كبير لصالح النسخة الأقدم.

قد يكون من الصعب إثبات هذا التقدير  لمشاهد ليس لديه بعض الخبرة والتعود على مشاهدة الكلاسيكيات الصامتة، وبالأخص لمعظم المشاهدين الصغار الذين ينفرون من أي فيلم بالأبيض والأسود، وغير مصحوب بالموسيقى الصاخبة والصراخ وحركات الكاميرا البهلوانية.

أفلام روبرت ايجرز نموذج واضح على ذلك، بداية من فيلمه الأول The Witch (2016)، ثم “رائعته” The Lighthouse (2019 ) و The Northman (2022)، كلها أفلام تعتمد على الإبهار التقني والمتعة الحسية السطحية، ولكنها لا تستطيع أن تتسلل تحت الجلد أو تمس وتراً عميقاً في النفس، أو تربك منطقة في العقل، وليس أدل على ذلك من فيلمه الأحدث Nosferatu.

عمر الرعب

نحن أمام واحد من أقدم الأنواع الفنية وأكثرها شعبية (مصاص الدماء)، حتى قبل أن تظهر السينما بمئات، وربما آلاف السنوات، لعل أقدمها هي الإلهة “سخمت” عند المصريين القدماء، والتي كانت تستمتع بشرب دماء البشر.

وحتى لا نستغرق في تتبع أصول مصاصي الدماء، يكفي هنا أن أشير إلى أول كتاب صدر عن الموضوع منذ أكثر من 200 سنة بعنوان  The Vampyre من تأليف جون بوليدوري في 1819، والذي حقق نجاحاً هائلا وطبع منه عدة طبعات، ما يشير إلى جاذبية مصاصي الدماء وقدرتهم على الحياة على مر العصور.

لكن العمل الذي أسس لهوس القرن العشرين بمصاصي الدماء كان رواية الأيرلندي برام ستوكر التي حملت اسم “دراكولا”، والتي صدرت طبعتها الأولى 1897،  ومنذ ذلك الحين لم تتوقف عن إعادة الطبع، ولا عن إلهام عشرات الكتاب وصناع الأفلام ومصممي الموضة بعالم مصاصي الدماء، ومن الغريب أن حمى “دراكولا” عبرت القرن العشرين لتزيد وتتفاقم خلال الألفية الثالثة من خلال سلاسل روائية وفيلمية لا تكاد تحصى.

كان أول فيلم روائي طويل يقتبس عن رواية برام ستوكر هو Nosferatu مورناو، بالرغم من أنه لم يحمل عنوان الرواية ولم يشر إلى اسم صاحبها، هرباً من حقوق الملكية، كما تم تغيير أسماء الشخصيات وموقع وزمن الأحداث لتناسب ألمانيا نهاية القرن التاسع عشر.

وجدير بالذكر أن الفيلم تم اقتباسه في فيلم ألماني آخر حمل اسم Nosferatu The Vampyre من إخراج فيرنر هيرتسوج، 1979، وفنياً تعد هذه النسخة أعظم ما شهدته السينما من أعمال مصاصي الدماء.

تلميذ التعبيرية

نحن، إذن، أمام فيلمين من روائع السينما العالمية، ما يجعل المرء يتساءل ما الذي دفع الأميركي روبرت إيجرز إلى اقتباس الفيلمين الألمانيين بدلاً من رواية ستوكر الانجليزية الأصلية، أو أي رواية أو فيلم من الروايات والأفلام الثمينة والرخيصة التي يعج بها الكوكب؟ أعتقد أن وراء ذلك أسباب “فنية” تتعلق باسلوب الفيلمين أكثر ما تتعلق بموضوعه (مع الأخذ في الاعتبار أن زمن ومكان وشخصيات الفيلمين: ألمانيا منتصف القرن التاسع عشر مرتبطين عضوياً بهذا الأسلوب). 

لقد كان Nosferatu مورناو حدثاً فارقاً في تاريخ السينما، فمن ناحية ساهم في تدشين ما نطلق عليه نوع الرعب، الذي بدأ بفيلم The Cabinet of Dr. Caligari للمخرج روبرت فينه، 1920، وكذلك مدرسة “التعبيرية الألمانية” التي نقلت السينما إلى مصاف الفنون البصرية الرفيعة.

وقد تميزت هذه المدرسة بالتركيز على عنصر التصوير باعتباره الأكثر بروزاً وتميزاً في السينما، وبما أن الألوان لم تكن قد ظهرت بعد، فقد ركز رواد هذا الاسلوب على اللعب بالأبيض والأسود والضوء والظل، كما اعتمدوا على الديكورات وأشكال العمارة المهيبة وزوايا الكاميرا الغريبة، والقصص التي تسبر الجانب المظلم من النفس البشرية، وراحوا يرسمون لوحات لا تنسى، مثل ظل نوسفراتو الهائل أو ظل المنوم مغناطيسياً في “كابينة الدكتور كاليجاري” أومسيرة العمال مسلوبي الارادة في Metropolis لفريتز لانج، 1927، وغيرها.

روبرت إيجرز تلميذ نجيب في مدرسة التعبيرية الألمانية، ومن شاهد أفلامه، خاصة  The Lighthouse، المصور بالأبيض والأسود، والذي ينتمي لنوع الرعب السيكولوجي، يمكن أن يلاحظ على الفور اهتمامه بعنصر التصوير واللعب بالاضاءة.

وفي Nosferatu، يحقق إيجرز حلماً شخصياً قديماً بانجاز خطوة متقدمة، عصرية، في هذه “التعبيرية” البصرية، وهذا بالفعل ما ينجح فيه بشكل كبير، هذا التصوير المذهل الذي يحول الشاشة إلى لوحات غاية في الجمال والتعبير، بالرغم من أنه قد يكون النجاح الوحيد في الفيلم!

معنى مصاص الدماء

على مستوى القصة والمضمون حاول إيجرز أن يقدم معالجة جديدة تتناسب مع جمهور اليوم. ولكن هذه المعالجة، مثل كثير من القصص الحديثة عن مصاصي الدماء، ومنها سلسلة روايات وأفلام Twilight الرومانتيكية العجيبة، تختزل  كثيراً من سحر وغموض مصاصي الدماء.

لقد حار علماء السيكولوجي والأنثروبولجي والسوسيولجي ونقاد الأدب والسينما طويلاً في تفسير أسرار مصاصي الدماء وجاذبيتهم، من قال منهم، مثل فرويد، أنها تعبير عن “الليبيدو”، أي الطاقة الجنسية المكبوتة، بشكل عام. وأحياناً عن النزعات الماسوشية السادية، حيث يتخيل المرء، أنثى كان أم ذكراً، أنه في موقف المعتدى عليه، وقد ربط فرويد بين هذه الماسوشية وتخييلات الطفل الذي يخشى من والديه فيتخيلهم وحشاً يأكله أو يضربه أو يخصيه، حسب مراحل نمو الطفل.

وفيما يرى البعض أن المسوخ (مصاصي الدماء، المذءوبين..إلخ) هم تعبير عن العدوانية الذكورية، إلا أن ذلك لا يفسر انتشار وجاذبية مصاصات الدماء، وقد ظهر أول فيلم عنهن بعنوان Draculas Daughters في ثلاثينيات القرن الماضي!

وعلى العكس ترى الناقدة النسوية الرائدة جوليا كريستيفا أن أدب وسينما الرعب بشكل عام، يعرضان “مواجهة مع المؤنث” (المسوخ الرجال يتم تخنيثهم غالباً)، وأنهما غالباً ما يعرضان مواجهة مع “الدنئ” أو “المستبعد”، أي المسكوت عنه من الذات، وهذا المسكوت عنه يرعب بقدر ما “يتوسل ويقلق ويثير الرغبة”، وأشكال الدناءة وفقا لكريستيفا تتأسس حسب علاقتها بالطعام وفضلات الجسد والاختلاف الجنسي وتتمثل أقصى درجات الدناءة في الجثة الميتة.

أما أغرب شئ في هذا التحليل الكاشف، فهو أن الجسد الذي يصنف أكثر من غيره مع الدنئ فهو جسد الأم، حيث ترى كريستيفا وأخواتها من المحللات النسويات أنه يمكن تعقب أصول كل خبرات الرعب الجسدي أو التي تتضمن فقدان الذات وصولا إلى خبرات الطفل مع جسد الأم، الذي يفرز الدم واللبن وينتفخ وينكمش ويطرد الوليد بعنف، ويقرب ويستبعد الطفل.

والدنئ دائماً ما يكون على جانب الأنثوي والأمومي في تعارض مع الرمزي الأبوي، ميدان القانون واللغة. وسوف أشير هنا إلى نقطتين: مصاصة الدماء الأولى “سخمت” هي أنثى تمثل الأم، ومهنة البطل الرجل في كل من “دراكولا” ستوكر ونسخ نوسفراتو المتعددة محامي يعمل بالقانون! 

وقد يتساءل المرء لماذا تصور المسوخ عادة كذكور، ولكن وفقاً لهذا التحليل فهم ذكور يجري تأنيثهم، فدراكولا يحتاج إلى تغيير دماءه كل فترة كما لو أنه يعاني من الدورة الشهرية.

كما أن الأساطير القديمة ربطت بين دورة المرأة واكتمال نمو القمر وتغيير الثعبان لجلده، لإنهم يمرون جميعاً بمراحل يختفي فيها القديم ويولد الجديد.. وبعض الشعوب القديمة كانت تربط بين الطمث وعضة الخفافيش مصاصة الدماء.

وفي كتابها “عندما تنظر المرأة” ترى الناقدة ليندا ويليامز أن “هناك صلة قرابة مدهشة (ومدمرة أحياناً) بين المسخ والمرأة. ذلك أنه، مثل المرأة، يمثل شذوذاً بيولوجياً ذا رغبات مستحيلة وخطرة.

ولكن هل يتوجه أدب وسينما مصاصو الدماء إلى الرجال أم النساء؟ وفقا لهذا التحليل فإن كلاً من الرجل والمرأة يشاهدان المسخ بطريقة مختلفة، الرجل يراه كتجسيد لخوفه التقليدي من المختلف، بينما تتأذى المرأة لإنها ترى في شذوذ المسخ شبها بشذوذها.

ربما يكون التفسير الأكثر تماسكا هو ما قال به عالم النفس كارل يونج من أن مصاص الدماء يمثل الجانب المخفي من الذات نفسها. حيث يرى أن لكل شخصية ظل مضاد لها (anti- hero بمصطلحات السينما)، وأن داخل كل رجل “أنيما” (أو قرينة بالتعبير الشعبي) امرأة وداخل كل امرأة “أنيموس” رجل، وأن مصاص الدماء غالباً ما يمثل هذا القرين الذي يبعث من القبو ليلاً. ويتماشى هذا التحليل كثيرا مع “نوسفراتو” إيجرز، إذ يمكن النظر إلى مصاص دماء البطلة باعتباره أناها الذكورية المكبوتة.

وبعيداً عن التحليل النفسي والأنثروبولوجي رأى ماركس أن مصاصي الدماء إنما يمثلون الرأسمالية التي تمتص دماء العمال والطبقات الكادحة (بينما تعبر أفلام الزومبي عن الخوف المضاد لدى الطبقة الوسطى من “استيقاظ” الفقراء الجوعى لالتهامهم).  

وإذا مددنا هذا الخيط أكثر يمكن أن نرى في أفلام الرعب الخوف من “الآخر”، “الأجنبي” بشكل عام. ومن ضمن التفسيرات القديمة لـ”نوسفراتو” مورناو مثلا أنه كان يشير إلى اليهود الذين اتهموا آنذاك بنهب اقتصاد ألمانيا، ذلك أن شخصية مصاص الدماء تشبه الصورة النمطية للمرابي اليهودي، كما أن اسمه “أورلوك” يشبه اسم المرابي “شايلوك” في مسرحية شكسبير الشهيرة “تاجر البندقية”.

أما أبسط تفسير لمصاصي الدماء فهم البشر المرضى نفسياً، أصحاب الطاقات السلبية، الذين يمصون طاقة الآخرين، والمحرومون من الحب، الذين يعوضون عن حرمانهم بالجشع إلى السلطة والمال وإيذاء الآخرين.

تفسير عصري

يكمن سر مصاصو الدماء في قابليتها للتفسيرات المختلفة وقدرتها على مخاطبة مناطق متعددة من الوعي والوعي الباطن للمشاهد باختلاف جنسه وعمره وثقافته وطبقته الاجتماعية، ولكن من بين كل هذه التفسيرات اختار روبرت إيجرز أن يركز على جانب واحد فقط هو التفسير الجنسي.

منذ اللحظة الأولى في الفيلم نشاهد بطلته ايلين (ليلي روز ديب) في حالة شبق لعشيق غامض وعلى مدار أكثر من ساعتين لا يحدث شئ تقريباً سوى لقاء العشيقين (ليلي والمسخ مصاص الدماء) في لقاء ساخن وقاتل يدمر الإثنين معا.

لا وجود لطبقات أخرى هنا: لا لرحلة زوجها توماس (نيكولاس هولت)، الذي يصبح أول فريسة لنوسفراتو، أو برحلة نوسفراتو نفسه وسبب ارتباطه الأزلي بايلين، ولا بالتفسير الاجتماعي والسياسي للقصة، التي حافظ إيجرز على مكانها، مدينة “فيزبورج” الألمانية، وزمنها، 1838، وفكرة الطاعون الذي يجتاحها من خلال مئات الآلاف من الفئران، دون أن يأخذ منها سوى بعض الصور المخيفة مفرغة المعنى.

التغيير الأساسي الذي قام به إيجرز يتعلق بشخصيتي البطلين: نوسفراتو (بيل سكارسكارد)، الذي يظهر بملامح بارزة الذكورة: شارب كثيف قديم على الطريقة المجرية، وصوت جهوري، وجسد عارٍ، بالرغم من التشوهات المخيفة البادية على هذا الجسد. وايلين التي تتخلى في هذه النسخة عن ضعف العذراوات المريضات في النسخ الأصلية، لتصبح أكثر قوة وتعبيراً عن الرغبة، حتى أنها تدبر بدهاء لقاءها الأخير مع الوحش.. وهو تفسير يتفق إلى حد كبير مع نظرية أن المسخ تعبير عن الخوف من المؤنث.. كما لو أن ايلين بشكل ما، هي الأم التي طردت وليدها، الذي يناديها ويظل يحلم دوماً بالعودة للموت في رحمها.

في نهاية المطاف يتبين أن “نوسفراتو” يدور حول إيلين، لا المسخ الذي يطاردها، وأنها مصدر هذه الخيالات الجامحة، التي لا ترتوي إلا بتحققها المدمر.. وكأن الفيلم دعوة للقفز من النوافذ لا للهرب، كما فعل توماس، ولكن لاحتضان الرغبات الليبدية القاتلة.

* ناقد فني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *