خالد بن سالم الغساني 

          

خلال العقدين الأخيرين، اشتهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كأحد أبرز السياسيين البراجماتيين، القادرين على لعب أدوار متعددة وارتداء أقنعة متنوعة وفق متطلبات المصلحة. 

يجسد أردوغان المعنى الحقيقي للبراجماتية، التي ترى قيمة الفكرة في نتائجها العملية وتأثيراتها الواقعية، لقد نجح في إقناع الكثيرين، خاصة المتعاطفين مع تنظيم الإخوان المسلمين، بقدرته على الجمع بين الإسلام السياسي والمناورات الدبلوماسية المرنة، مستغلاً كل طرف أيما إستغلال لتحقيق أهدافه الشخصية والسياسية.

لم يكن أردوغان عضواً رسمياً في الإخوان المسلمين، لكنه تأثر بأفكارهم واستفاد من شبكاتهم لتعزيز قاعدته الشعبية في تركيا. دعمه للإخوان لم يكن إيماناً دينياً صلباً، بل أداة سياسية لتوسيع نفوذ تركيا إقليمياً. في أعقاب الربيع العربي، قدم ملاذاً آمناً لقادة الإخوان من مصر وسوريا، ودعم حركات إسلامية في ليبيا وتونس. لكنه لم يتردد في تقليص هذا الدعم عندما اقتضت المصلحة التقارب مع دول معادية للإخوان مثل مصر والسعودية، فارضاً قيوداً على أنشطتهم في إسطنبول. وهنا تتجلى براجماتيته، حيث يستخدم الإخوان كورقة سياسية، لا كعقيدة ثابتة.

في الوقت نفسه، يتصدر أردوغان وسائل الإعلام كمدافع بارز عن القضية الفلسطينية، مُنصّباً نفسه رمزاً للمقاومة محققاً إلى حد كبير بعض ذلك التنصيب الذاتي في أعين الكثير من العرب والمسلمين. كما إن دعمه لحركة حماس، لم يقتصر على الخطابات؛ فقد استقبل قادتها في أنقرة، وسمح بإقامة مكاتب لهم في تركيا، ودافع عن شرعيتها كحركة مقاومة. هذا الدعم عزز صورته كزعيم إسلامي يتحدى الهيمنة الغربية والإسرائيلية، لكنه لم يخلُ من الحسابات السياسية؛ فالقضية الفلسطينية بالنسبة له أداة لتعبئة الشارع العربي والتركي، ووسيلة لتعزيز دوره كوسيط إقليمي. تصريحاته ضد إسرائيل غالباً ما تأتي في لحظات حاسمة، مثل الانتخابات التركية أو الأزمات الاقتصادية، لصرف الانتباه عن التحديات الداخلية وتعزيز شعبيته.

لكن على الجانب الآخر، تكشف علاقات أردوغان مع إسرائيل عن وجه آخر لبراجماتيته. رغم خطاباته العدائية، لم تنقطع العلاقات التركيةالإسرائيلية بشكل كامل، حتى في أسوأ لحظاتها، فقد استمر حجم التبادل التجاري بين البلدين في النمو، حتى خلال حرب غزة، حيث بلغ 5.4 مليار دولار في عام 2023. 

هذا التعاون الاقتصادي، إلى جانب المناورات العسكرية المشتركة والتعاون في مجال الطاقة، يكشف أن أردوغان لا يرى إسرائيل كعدو أيديولوجي مطلق، بل كشريك محتمل عندما تتطلب المصلحة ذلك، حتى عندما أعلن قطع العلاقات الدبلوماسية معها، ظلت القنوات الاقتصادية مفتوحة.

أردوغان إذن، أبى أن يكون أسيراً لأيديولوجيا محددة فهو يقرأ الواقع بعين المصلحة، مستخدماً الإخوان كأداة لتوسيع النفوذ، والقضية الفلسطينية كرافعة لشعبيته، وإسرائيل كشريك اقتصادي وسياسي عند الضرورة. هذه القدرة على التوازن بين التناقضات تجعله براجماتياً بامتياز، لا يؤمن بالمبادئ الثابتة، كل شيءٍ عنده يقاس بالمصلحة وبمدى قرب هذا الموقف أو ذاك من تحقيقها، وقدرته تلك تثير الشك حول صدق نواياه وتضع أسئلة عديدة حول مدى إيمانه بما يقدم عليه بعيداً عن المصلحة والمنفعة الوقتية، هل هو مدافع حقيقي عن القضايا الإسلامية، أم أن كل ذلك مسرحية سياسية؟ الإجابة ربما تكمن في جوهر البراجماتية التي تقول : الأهم ليس النية، بل النتيجة. 

وأردوغان بكل تأكيد يعرف كيف يحقق النتائج التي تخدم طموحاته وطموحات تركيا، حتى لو تطلب الأمر المشي على حبل مشدود فوق هاوية التناقضات.

شاركها.