خالد بن سالم الغساني

 

لأكثر من سبعة عقود، يعيش الشعب الفلسطيني، تحت نير احتلال دموي لا يعرف سوى لغة القتل والقمع، يتعرض فيه الإنسان لأبشع أشكال الظلم، من مصادرة الأرض وهدم البيوت إلى القصف المُستمر والحصار الخانق. هذا الشعب الذي يقف وحيدًا في مواجهة آلة الحرب الصهيونية يمارس حقه الطبيعي في الدفاع عن نفسه وأرضه وكرامته، وهو حق تؤكده القوانين الدولية، كما تشهد به كل تجربة إنسانية قاومت العدوان عبر التاريخ.

غير أنَّ الفلسطيني يُحاكم بجريرته ثلاث مرات: مرة بيد الاحتلال الذي يسلب الأرض ويقتل بدم بارد، ومرة أخرى بصمت دولي بارد وتواطؤ قوى كبرى تمدّ المعتدي بالسلاح والغطاء السياسي، وثالثة بيد بعض المتخاذلين من ذوي القربى الذين صبّوا اللوم على غزة حين هبَّت لتدافع عن نفسها، فحوّلوا الضحية إلى متهم، والمقاومة إلى عبء، وهم في حقيقتهم يوفّرون خدمة مجانية للاحتلال ويضيفون خنجرًا جديدًا في خاصرة القضية.

غزة اليوم ليست قطعة أرض عربية فلسطينية عزيزة ومحاصرة من قبل قوات احتلال غاشم وهمجي؛ بل هي صورة مكثفة لمعاناة إنسانية لم يشهد لها التاريخ مثيلًا ولا تحتمل؛ فهي تعيش حصارًا خانقًا حوّل الغذاء إلى حلم بعيد المنال، والدواء إلى رفاهية، والماء والكهرباء إلى أمنيات. أطفالها يبحثون بين الركام ووسط الدمار عن كسرة خبز أو بقايا حياة، ومرضاها يواجهون الموت ببطء في غياب الدواء، وأمهاتهم يحاولن أن يخفين الدموع بابتسامات الصبر. الاحتلال لم يكتفِ بالقصف والتدمير، بل جعل من الجوع سلاحًا، ومن الحرمان سياسة أمر واقع، في جريمة واضحة ومُكتملة المعالم وعن سبق إصرار، لا يمكن تبريرها.

وسط هذه الصورة المأساوية جاء تحرك أسطول الصمود، حاملًا معه أكثر من مؤن غذائية وأدوية ضرورية؛ جاء محمّلًا برسائل أخلاقية قبل كونها سياسية، ورسائل مقاومة بوجه وبشكل آخر، حيث لم تكن هبّة تكاتف ونداء الشرفاء والأحرار من مختلف بقاع العالم، سوى صرخة ضمير عالمي مدوية، تشكلت في مواجهة الجريمة المنظمة والمدبرة والمستمرة بحق غزة. وعلى متنه اجتمع المئات من أحرار العالم؛ مثقفون وأطباء وصحفيون وحقوقيون وطلبة جامعات ومتضامنون من كل الجنسيات، ليقولوا للعالم ولمؤسساته، إن الفلسطيني ليس وحيدًا، وإن الحصار لن يبقى قدرًا مسلطًا على شعب لم يستكن يومًا لقطعان الاحتلال.

أسطول الصمود بما يحمله من مغزى هو تأكيد على أن المقاومة مُتعددة الأشكال، وأنها لا تنحصر في البندقية وحدها؛ بل تتجسد أيضًا في فعل التضامن، وفي كسر الصمت، وفي فضح الاحتلال وتعرية داعميه. إنه شاهد على أن الضمير الإنساني لم يمت تمامًا وان ماتت مؤسساته تحت سيطرة الكاوبوي والغرب الاستعماري، وأن العالم لا يزال قادرًا على الوقوف في وجه الجريمة المنظمة إذا تحركت الشعوب بإرادتها الحرة.

لقد أعاد الأسطول ذاكرة العالم لقصص أرواح تُزهق ظلمًا، وأرواح ترفض أن تُدفن في صمت، وهو في الوقت نفسه إنذار للمحتل بأن الحصار مهما طال لن يُخمد جذوة الصمود، وأن غزة التي صمدت أمام الحرب والدمار قادرة على أن تبقى عنوانًا للمقاومة والكرامة.

إن كل الفلسطينيين اليوم، والغزاويون على وجه الخصوص، وهم يواجهون الموت قصفًا وتجويعًا، يرسلون رسالة للعالم كله: نحن باقون، نقاوم بالحياة قبل السلاح، وندافع عن حقنا في الأرض والحرية. وأسطول الصمود ليس سوى بداية لإيقاظ ضمير عالمي أوسع، يفضح الجريمة ويعلن أن فلسطين، بكل ما فيها من دماء وآلام، ستظل حيَّة في وجدان الأحرار، حتى يتحقق العدل وتشرق شمس الحرية على أرضها.

شاركها.