تحقيق: ناصر أبوعون

لقد كان خريف صلالة مأوى ومهوى سلاطين عُمان منذ القِدم، وفي مخطوط “كشف الستار عن حالة ظَفار” الذي يتجاوز عدد صفحاته الـ90، دَوَّنَ الشيخ عيسى الطائي قاضي قُضاة مسقط رحلته إلى (ظَفار العُمانيّة) بفتح الظاء خلافًا لـ(ظُفار اليمنية) بضم الظاء، برفقة السلطان تيمور بن فيصل، ونُخبة من السادة أصحاب السمو من أُسرة آل سعيد، والتي بدأها في النصف الأول من العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديدا في الرابع والعشرين من شهر شعبان عام 1341 هجرية الموافق يوم الحادي عشر من أبريل عام 1923م.

وتلك الرحلة جمع فيها الشيخ عيسى الطائيّ ما بين التأريخ والتوصيف ورصد تشكُّلات موقع ظفار الجغرافي، وما رشح عنها من علاقات أنثروبولوجية، خلّقتها البيئة الطبيعية، واستدعى فيها العديد من الأحداث التي تنتمي نسبيّا إلى عالم (الميثولوجيا)، وضمّنها سردًا شائقًا للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية وعرّج بإسهاب على الأعراف والتقاليد الظَّفاريّة، وبيَّنَ مدى ارتباطها بالدين والتاريخ، فضلا عن حديثه الشائق عن المناخ، والزراعة والتجارة منذ العصور الأولى للتاريخ، والتطورات الاقتصادية والسياسية التي دارت رحاها على المجتمع الظفاريّ.

يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِح بِنْ عَامِر الطَّائِيُّ قاضي قُضاة مسقط: [ذِكْرُ أَرْزَات.. وَقَدْ خَرَجْنَا إِلَى أَرْزَات صُحْبَة السُّلْطَانِ بِقَصْدِ النُّزْهَةِ؛ وَأرْزَات فِي الْأَصْلِ اِسْمٌ لِوَادٍ كَثِيْرِ الْأَشْجَارِ، بِهِ عُيْوْنُ مَاءٍ تَنْبُعُ وُقُوعًا مِنْ أَصْلِ الْجَبَلِ، وُيُطْلَقُ الْآنَ عَلَى بَلْدَةٍ اِخْتَطّهَا الْوَالِي سُلَيْمَانُ تَبْعُدُ عَنْ ظَفَارِ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ تَقْرِيْبًا؛ أَجْرَى بِهَا الْوَالِي الْمَذْكُورُ نَهْرًا مِنْ بَاطِنِ هَذَا الْوَادِي مِنْ تِلْكَ الْعُيُونِ النَّابِعَةِ، وَكَانَ سَابِقًا أَجْرَى هَذَا النَّهْرَ سَلَاطِيْنُ ظَفَارِ الْأَقْدَمُوْنَ، لَكِنْ دَرَسَ ذَلِكَ النَّهْرُ بِتَوَالِي الْأَيَّامِ، وَهِيَ وَاقِعَة فِي مَكَانٍ أَفْيَح يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُبْهِجُ الْقَلْبَ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ حِصْنٍ صَغِيْرٍ يُحِيْطُ بِهِ حَائِطٌ وَاسِعٌ يَسْكُنُهُ الْعَبِيْدُ وَمَزَارِعُ وَاسِعَةٌ وَبُسْتَانٌ حِذَاءَ الْحِصْنِ بِهِ أَصْنَافُ الْأَشْجَارِ جَلَبَهَا الْوَالِي مِنْ عُمَانَ بِهَذَا الْبُسْتَانِ، وَبَنَى فِي أَطْرَافِ الْعِمَارَةِ بُرُوجًا وِقَايَةً لَهَا مِنْ شَرِّ الْأَعْرَابِ إِلَّا أَنَّا لَمْ نَجِدْ فِي هَذَا الْبُسْتَانِ شَجَرَةَ الْأَنْبَا فَاسْتَغْرَبْنَا ذَلِكَ! وَأُخْبِرْتُ أَنَّهُ غُرِسَتْ فِيْهِ؛ وَلَكِنْ هَبَّتْ رِيْحٌ عَاصِفٌ فَكَسَرَتْهَا جُذَاذًا.

وَفَلْجُ أَرْزَاتَ هٰذَا غَزِيرٌ لَا يَقِلُّ عَنْ عِشْرِينَ دَلْوًا بِالتَّحَرِّي وَمَخْرَجُهُ يَبْعُدُ عَنْ هٰذِهِ الْعِمَارَةِ مِقْدَارَ فَرْسَخَيْنِ، وَهُوَ يَنْسَابُ فِي أَرْضٍ لَا رَمْلَ بِهَا صُلْبَةٍ صَالِحَةٍ لِلْغَرْسِ، يَنْسَابُ مِثْلَ الرُّقْطَاءِ فِي كُثْيُبٍ مِنْ رَمْلٍ، وَلٰكِنْ بِكُلِّ أَسَفٍ لَا نِظَامَ فِيهِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْاِنْحِنَاءِ وَالْاِعْوِجَاجِ فِي سَاقِيَتِهِ، وَلَا دَاعِيَ عَلَى ذٰلِكَ إِلَّا عَدَمَ مَعْرِفَةِ الْعَامِلِ، وَلَا يُوجَدُ فِي هٰذَا الْفَلْجِ شَيْءٌ مِنَ التَّصْرِيجِ إِلَّا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِقْدَارَ خَمْسَةِ أَبُوعٍ لَا يُعَدُّ شَيْئًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ سَاقِيَتِهِ.

وَيَقُولُ السُّلْطَانُ إِنَّ فِي نَفْسِهِ إِصْلَاحَ هٰذَا الْفَلْجِ بِالصَّارُوجِ وَزَوَالَ هٰذَا الْاِعْوِجَاجِ مِنْ سَاقِيَتِهِ عَلَى نِظَامٍ جَمِيلٍ. وَكَأَنَّ الشَّاعِرَ عَنَى هٰذَا الْفَلْجَ بِقَوْلِهِ:

مِيَاهٌ بِوَجْهِ الْأَرْضِ تَجْرِي

كَأَنَّهَا صَفَائِحُ تِبْرٍ قَدْ سُكِبْنَ جَدَاوِلَا

***

كَأَنَّ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْجَرْيِ جَنَّةً

وَقَدْ أَلْبَسَتْهُنَّ الرِّيَاحُ سَلَاسِلَا

وَمَعَ وُجُودِ هٰذَا الْفَلْجِ الثَّمِينِ بَيْنَ ظَهْرَانَي أَهْلِ ظُفَارَ لَا يَنْتَفِعُونَ بِشَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا بِغَرْسِ الْمُسَيْبِلُو وَالذُّرَةِ وَالْفِنْدَالِ أَيْ الْأُسْطُفْلِينِ.

وَأَخْبَرْتُ أَنَّ الْوَالِيَ سُلَيْمَانَ أَكْثَرَ مِنْ غَرْسِ السُّكَّرِ فِيهِ فَحَصَلَ مِنْ ذٰلِكَ أَرْبَاحٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ صَنَعَ آلَةَ الْمِعْصَرَةِ لِعَصْرِ قَصَبِ السُّكَّرِ وَقُدُورًا لِطَبْخِهِ.

وَهُمْ يَغْرِسُونَ الْقَتَّ أَيْ الْبَرْسِيمَ، فَإِذَا شَبَّ وَنَمَا تَرَكُوهُ وَشَأْنَهُ فَلَا يَعْتَنُونَ بِهِ وَلَا يُخْرِجُونَ عَنْهُ الْحَشِيشَ، وَإِذَا أَرَادُوا جَزَّهُ قَطَعُوهُ مِنْ أَعْلَى أُصُولِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ إِبَانُ قَطْعِهِ وَجَزِّهِ، بَلْ يَرَوْنَ قَطْعَهُ قَبْلَ نُمُوِّهِ وَإِدْرَاكِهِ أَوْلَى، عَكْسَ مَا عِنْدَنَا، وَلَا يَمْضِي نِصْفُ عَامٍ إِلَّا وَيُثِيرُونَ أَرْضَهُ وَيَغْرِسُونَ آخَرَ بَدَلَهُ.

وَ(الْهِيسُ) عِنْدَهُمْ لَا يُبَالِغُ فِي حَفْرِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ خُطُوطٍ رَيْثَمَا يَبِينُ أَثَرُهَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَإِذَا أَرَادُوا غَرْسَ الْمُسَيْبِلُو بَذَرُوهُ أَوَّلًا بِمَكَانٍ ثُمَّ إِذَا انْتَشَا نَقَلُوهُ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فَيَأْخُذُونَ ثُغْتَا فَيَغْرِسُونَهُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَهٰكَذَا يَفْعَلُونَ بِالْبَاقِي، فَيَنْتَشِئُ ذَا أَعْوَادٍ دِقَاقٍ، فَإِذَا سَنْبَلَ صَغِيرًا صَغُرَ حَجْمُ قَضِيمِهِ، وَهُمْ يَكْسِرُونَ قَضِيمَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذٰلِكَ أَدْعَى لِبَقَاءِ الْحَبِّ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَضِيمَةَ إِذَا كُسِرَتْ ذَبُلَتْ وَصُوِّحَتْ وَانْقَطَعَتْ عَنْهَا مَادَّةُ الْحَيَاةِ الَّتِي تُنَمِّيهَا وَتُنْشِيهَا. وَغَايَةُ مَا نَقُولُ إِنَّ أَهْلَ ظُفَارَ قَلِيلُو الْمَعْرِفَةِ بِعِلْمِ الْفِلَاحَةِ].

شاركها.