د. شيرين النوساني **

رجل لم يغادر إيطاليا يومًا، لكنه أبحر بقرائه فوق سجادته السحرية إلى الغابات الاستوائية، عبر بهم البحار إلى حيث التقوا بالقراصنة الذين نهبوا السفن، في “بلاك تايغر” و”ساندوكان”، وإلى حيث اختبروا سحر الترحال، في “القرصان الكاريبي”. زاروا معه الأدغال، وصعدوا إلى قمم الجبال، حتى أعاد في أذهانهم تشكيل خريطة العالم، ورسم عليها المكان من ليل وورق، وهب للعالم أوطانًا، وصارت أعماله بيوتًا للحياة. إنه المواطن “العالمي” و”المسافر الوهمي”، كاتب المغامرات العظيم إميليو سالغاري.

ولد المؤلف الإيطالي في 21 أغسطس 1862 في مدينة فيرونا لأسرة متواضعة الحال. أمضى الطفل الهادئ، الذي يعج خياله بالمغامرات، وقته وأيامه يقرأ في مكتبة مدينته عن الرحّالة والقراصنة والمستكشفين. ورغم ولعه بدراسة الملاحة البحرية، ترك دراسته بسبب الصعوبات المالية، إذ عاش في فقر مدقع رغم نجاحه. عمل كصحفي، ثم اتجه لكتابة روايات مسلسلة في جرائد رخيصة، وصدرت له عشرات السلاسل الأدبية.

وفي 25 أبريل 1911، وبعد سنوات من المعاناة والاكتئاب الحاد، انتحر سالغاري في غابة قرب مدينة تورينو، تاركًا رسالة تقول: “إلى الذين يدّعون حبي، لقد كفيتكم مؤونتي!”

كاتبنا الذي نتناوله بالحديث اليوم هو أديب بحث عن الحرية في الكلمات، وأمسك بسيف القلم يحيك به مغامرات، وقاد سفينته عبر عواصف في بحر الصين وفي المحيطات، حتى تحوّل إلى أسطورة أدبية، وبات واحدًا من أبرز كتاب المغامرات، ليس في الأدب الإيطالي فحسب، بل وجد مرفأ يأويه في الأدب العالمي أيضًا، ولدى مختلف الثقافات.

ألهمت كتاباته أجيالًا من الكتّاب، فترجمت أعماله إلى عشرات اللغات، وتحول بعضها إلى أفلام ومسلسلات. كان الأديب مبدعًا مغبونًا، سرق الموت جسده، لكن حبر قلمه أحيا دماءه في عروق الأدب، وفي عقود الحكايات ورمال الكلمات.

قال: “لم أركب سفينة في حياتي، لكن روحي أبحرت إلى حيث لا يجرؤ البحّارة.” وكأنما أراد أن ينقل حلمه بأن يصير بحّارًا ومستكشفًا، بعد أن ضاق به الواقع، إلى خيال جامح عبر أعماله الأدبية. فإذا بأحداث رواياته، التي بلغت الثمانين، وقصصه التي تجاوزت المئات، تدور في أماكن بعيدة، سكنتها روحه، وإن لم تطأها قدمه، مثل إفريقيا، والكاريبي، والهند، وماليزيا، وغيرها من البلدان والقارات.

كانت أعمال إميليو سالغاري زاخرة بتفاصيل ثقافية، وعادات، ولغات، ومخلوقات غريبة، وأدغال، وصحارى، وجزر، توحي كلها بأنه طائر القطرس الجوّال، وشبح البحار والمحيطات. وذلك على الرغم من أنه اعتمد في كتاباته على الكتب والموسوعات، وعلى خرائط العالم، كي ينتقل، وينقل قرّاءه معه، إلى أقاصي الأرض وإلى أعالي السماوات.

ورغم أن إميليو سالغاري يُعرف ككاتب مغامرات من طراز فريد، إلا أن له عددًا لا بأس به من المؤلفات التي تُصنّف ضمن أدب الخيال العلمي المبكر، أو على أقل تقدير، تحتوي على عناصر من هذا النوع الأدبي. فقد كتب مؤلفات تحمل طابع الخيال العلمي مثل: “رحلة إلى مركز الأرض” (1887)، و”أبطال القطب” (1899)، و”مدينة الذهب” (1898)، و”مصاص دماء الغابة” (1900). وكلها مؤلفات تتضمن عناصر من الخيال العلمي، تحكي عن بعثات استكشافية لأعماق الأرض، ومواجهات مع كائنات غريبة، ومغامرات بطائرة عملاقة تسبق العصر والأوان، ومناطق قطبية، واكتشافات مذهلة، وحضارات متقدمة، وتقنيات غامضة.

أما في هذه المقالة، فإنه ليروقني أن أبحث معكم في الأبعاد الفكرية والعلمية، ولا سيما السردية، لرواية تعكس رؤية إميليو سالغاري لمستقبل البشرية، وهي رواية “عجائب عام 2000”.

تُعد هذه الرواية من أبرز أعماله في الخيال العلمي، وتدور أحداثها حول شخصية “جيم فرن”، الشاب الأمريكي الثري، الذي يعرض عليه الطبيب والعالم، “دوك وايت”، المشاركة في تجربة علمية غير مسبوقة تُعرف بالحفظ بالتبريد، أي أن يتم تجميده حيًّا باستخدام تقنية متقدمة عام 1903، مع وعد بإيقاظه بعد مرور مئة عام، أي في عام 2003.

يوافق الشاب على المشاركة في التجربة، وبعد قرن من الزمان، يعود للحياة، ليجد نفسه في عالم مستقبلي قد تغيّرت فيه ملامح الحياة بصورة مذهلة؛ فالمدن صارت عملاقة، والمركبات تسير بالكهرباء، والتواصل بين القارات أصبح فوريًّا ولاسلكيًّا، والأمراض المستعصية تُعالج بتقنيات طبية حديثة، حتى أن اقتصاد العالم الجديد يقوم على العدالة في توزيع الثروات، والعالم يحكمه العلم ويسوده النظام، بلا فقر أو جريمة.

لكن، وكما يُقال، الكمال وهم جميل صعب المنال. فهذا العالم المبهر يكشف عن جانب قاتم من الحداثة؛ فبرغم كل هذا التقدم، اختفت منه الروابط العائلية والمعتقدات الدينية، وغدا عالمًا أقل إنسانية، يفتقر إلى الروح رغم كل تقدّمه، وتغلب عليه النزعة المادية.

في هذه الرواية، يقدم لنا إميليو سالغاري مزيجًا بين الإعجاب بالمستقبل الذي تحكمه الآلة وتسوده العقلانية المطلقة، وبين التخوّف من فقدان القيم والمُثل والروابط. يرسم لنا الأديب صورة “يوتوبيا تقنية” تقابلها “خسارة إنسانية”، حيث يطرح أسئلة عميقة عن الهوية، والمعاني الإنسانية، والحرية، وسط التقدم والإنجازات التكنولوجية والهيمنة الآلية.

تعكس الرواية تصورات إميليو سالغاري الشخصية لمستقبل البشرية، لا سيما تصويره للتقدم الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع الابتكار العلمي. وقد اعتمد الأديب على تقنية السرد الكلاسيكي، التي استخدمها للكشف التدريجي عن ملامح المستقبل، حيث يتم تجميد البطل ثم إيقاظه بعد قرن كامل، مما يمنح القارئ فرصة لإدراك وفهم التغيرات من منظور المتفاجئ بها.

وقد لجأ سالغاري في وصفه للأماكن إلى استخدام الوصف التقريري الصحفي، مما أضفى عليه طابعًا وثائقيًّا، ولكن بأسلوب خيالي يحمل روح سالغاري المغامِرة في اكتشاف الزمن.

ورغم أن إميليو سالغاري لم يكن عالِمًا ولا حتى باحثًا، إلا أن رؤيته كانت استباقية؛ فها هو يتخيل تفاصيل مذهلة، قد تحوّل بعضها من مجرد خيالات أو نبوءات إلى واقع تحقق في القرن العشرين. فشبكات الاتصال العالمية، والقطارات الطائرة، والأنظمة الاقتصادية المتطورة، كلها أمور تجاوزت الواقع بكثير، وصارت شهادة دامغة على أن الخيال العلمي يمكنه أن يمنح الأدب أفقًا رحبًا لا ينتهي، كما أن الأدب الخيالي بمقدوره أن يحرر العقل من قيود الواقع ويولّد عوالم مدهشة يتشابك فيها الممكن بالمستحيل.

لا يمكن القول إن رواية إميليو سالغاري تمجّد التقدم العلمي بقدر ما كانت تنتقد تبعاته وعواقبه، بيد أنها تنبأت بعدة ابتكارات، كتقنيات التجميد والحفظ الطبي، والقطارات الجوية، والاتصالات اللاسلكية. وعلى جانب آخر، لم تقتصر الرواية على تقديم تنبؤات تقنية، بل طرحت تساؤلات أخلاقية وإنسانية، مثل قضية تلاشي بعض القيم الأسرية والدينية لصالح النظام العام، وبنية السلطة والاقتصاد، والعلاقة بين التقدم التكنولوجي والسعادة الإنسانية.

في وقتٍ عاشت فيه أوروبا فورة صناعية وعلمية أثّرت في الإنتاج الأدبي بصورة ملحوظة، بدا إميليو سالغاري أكثر توجهًا نحو الابتكار والخيال العلمي الجريء السابق لعصره، حتى وإن انصبّ تركيزه على المغامرة أكثر من تفسيرها العلمي الدقيق. لذا، رأى بعض النقّاد أن أعماله تنتمي إلى “الخيال المغامر” أكثر من كونها خيالًا علميًّا صرفًا، إذ دمج بين التقنية والخيال، واستشرف آثار التكنولوجيا على العلاقات الإنسانية، أكثر من انشغاله بشرح آلياتها.

وتبقى أهمية رواية “عجائب عام 2000″ في قيمتها التاريخية وسبقها في وضع بذور الخيال العلمي المبكر للمستقبل. ورغم أن رؤيته لـ”اليوتوبيا التقنية” لم تخلُ من الأمل، إلا أنها كانت أيضًا محمّلة بشكوك عميقة حيال فقدان المعنى الإنساني والأخلاقي والاجتماعي، وهي بذلك تشكّل عملًا أدبيًا استشرافيًا يحمل همًّا إنسانيًا عميقًا، ونموذجًا فريدًا ونادرًا للخيال العلمي المبكر في الأدب الإيطالي، حيث جمعت بين البعد الفلسفي والاجتماعي والتقدّم التكنولوجي التنبؤي.

إنها مرآة ثقافية لأحلام القرن التاسع عشر في مواجهة المستقبل، الذي رسم له الكاتب صورة وردية “تقنية”، محفوفة بمخاطر تهدد “الإنسانية” نفسها.

وكما كتب إميليو سالغاري في أعماله نهايات درامية لأعداء أبطاله، استخدم الأديب سيفًا طعن به نفسه، وسقط أسفل عجلات المصير الذي جعل أبطاله ينتصرون عليه. وترك للبشرية إرثًا أدبيًا مميزًا وهائلًا، بعد أن حلّقت سفينة خياله، الذي لم يقيده الواقع ولم تحده الجغرافيا.

فطاف العالم وهو جالس بين جدران غرفته، وغادر العالم وكأنه يأبى أن يحيا خارج مغامرته.

** مترجمة وأستاذة جامعية

شاركها.