د. خالد بن علي الخوالدي

 

طلب مني أحد الأخوة الأعزاء كتابة مقال عن ازدواجية الولاء والمواقف، فحسب كلامه بأنه لاحظ مؤخرا وشخصيا لاحظتها منذ فترة وجود عدد من العمانيين ممن يملكون حسابات في مواقع التواصل الاجتماعي يتبنون الفكر الإقصائي، ويهبون للدفاع المستميت عن دول ليست دولهم، وينتفضون عند توجيه أي نقد لتلك الدول، وكأنهم أوصياء على سمعتها، وما يثير الاستغراب أكثر هو صمتهم المطبق عندما يهاجم وطنهم أو تتم الإساءة إلى رموزه، فتراهم يطأطئون رؤوسهم، وكأن الأمر لا يعنيهم، أو كأنهم يعيشون في وطن لا يلزمهم بالدفاع عنه، ولعمري هذا من أعظم الأمور التي تؤدي إلى تشتت الاتفاق وتقضي على اللحمة الوطنية.

هذه الازدواجية لو استمرت بهذه الطريقة، فإنها مؤشر على وجود أزمة انتماء، ويحتاج من كل المؤسسات وقفة جادة لمعالجتها، وقد أظهرت الأزمة الأخيرة التي تعرض لها الكاتب والمحلل السياسي علي بن مسعود المعشني مثل هؤلاء، حيث تحولوا فجأة إلى حراس غير معتمدين للهجوم على كلامه دون فهم، فخلطوا الحابل بالنابل، وركبوا الموجة مع الذباب الإلكتروني الذي هاجم المعشني في الظاهر وفي الباطن، فكان الهجوم على عُمان لمواقفها النبيلة من المقاومة، ومع الحق الفلسطيني في استعادة أرضه المغتصبة، والموقف الشعبي العماني من الحرب الصهيونية ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تمنى البعض في العديد من الدول أن تقضي هذه الحرب على الجمهورية وسيادتها، فخاب ظنهم.

ولا يحتاج الأمر إلى تركيز عميق، حيث نجد عدد من الحسابات والأشخاص يتحركوا كالثيران الهائجة عند أي انتقاد موجه لدولة أخرى أو حتى تلميح، ويظهروا حماسة غير طبيعية في الدفاع عنها، ويتبنوا خطابا إقصائيا ضد أي صوت مخالف، والمفارقة الصادمة تكمن في صمتهم المريب والمطبق حينما يُهاجم وطنهم أو حينما تمس رموزه، وكأن ولاءهم مشروط بمعايير محددة وغامضة أو كأن انتماءهم الحقيقي ليس للوطن الذي يحملون جنسيته بل لجهة أخرى تستهويهم أكثر.

وفي رأيي أن الذي يدفع هؤلاء إلى هذا التناقض العجيب والغريب هو ضعف الهوية والانتماء أو الانبهار المبالغ فيه بالدول الأخرى، وربما أيضا رغبة في نيل رضا مجتمعات معينة في العالم الافتراضي بداعي زيادة عدد المتابعين، وبعضهم للأسف يعيش في حالة استلاب ثقافي، حيث يرى كل ما هو أجنبي أفضل بمجرد كونه أجنبيا، بينما ينظر إلى وطنه بعين التشكيك الدائم، وآخرون يبحثون عن مكانة في قلوب معينة، فيبالغون في التعبير عن ولائهم لها، حتى لو كان الثمن التنكر لجذورهم ولوطنهم.

 

لكن الأخطر في هذه الظاهرة هو تبرير هذا السلوك تحت شعارات مثل: الموضوعية أو التحرر من العاطفة الوطنية، فنجد أحدهم يهاجم أي شخص ينتقد دولة أخرى بحجة احترام السيادة، لكنه في الوقت نفسه يتغاضى عن انتهاك سيادة وطنه تحت ذريعة حرية التعبير، هذه المعايير المزدوجة تكشف عن خلل عميق في الفهم، فحُب الوطن ليس عاطفة عمياء، أو تفاعلا وقتيا وحسب المزاج والهوى، وإنما مسؤولية أخلاقية وقيمة سامية لا يدركها إلا أصحاب القلوب العظيمة.

صحيح بأن الوطنية الحقيقية لا تعني التعصب الأعمى، لكنها أيضا لا تعني الصمت عن الحق، فلا يعقل بأن نتحمس لقضايا الآخرين بينما نتجاهل لما يتعرض له وطننا، ومن غير المنطقي أن نطلب من الآخرين احترام سيادة دولهم بينما نحن نفرط في سيادة الأرض التي تربينا عليها، فهذه التناقضات تسهم في تشويه صورة مجتمعنا وتضعف من مواقفنا أمام العالم كأمة متماسكة ومتعاونة.

إن الدفاع عن الوطن وعن أبنائه واجب وطني وفعل أخلاقي حث عليه ديننا الحنيف، فالانتماء ليس كلمات تقال في المناسبات، وتغريدات ورسائل في مواقع التواصل الاجتماعي، بل مواقف تترجم في اللحظات الحاسمة، فلا يعقل أن نسارع للدفاع عن الآخرين وعن دول أخرى ونظل مكتوفي الأيدي وصامتين عن الدفاع عن وطننا ومقدساتنا وأبنائنا، وعُمان تستحق منا الكثير، وأبناؤها صف واحد في وجه كل من يسيء إليها وإلى رموزها ويحاول النيل من هيبتها وكيانها الشامخ بشموخ جبالها وإنسانها، ودمتم ودامت عُمان بخير.

 

شاركها.