إبراهيم بن سالم الهادي
جلس أمامي وافد متقاعد يسكب سيرته كما لو أنه يفرغ صندوق أسرار قديم، بدأ حياته براتب ضئيل لا يكفي قوت يومه، ثم مضى يصعد في المراتب حتى تجاوز راتبه ألفيْ ريال عُماني بعد أن وصل إلى مناصب عليا رغم أن شهادته لم تتجاوز الصف السادس كما يؤكد، خرج من عمله بغنيمة نهاية خدمة بعشرات الآلاف كحقوقٍ، وبين يديه مفاتيح تعجز عنها أيدي مسؤولين كبار كما يقول.
يتفاخر بنفسه من حقه أنه استطاع جلب أسرته وأقاربه إلى كراسٍ إدارية برواتب سخية، بعضهم بالكاد يعرف كتابة اسمه، لا شك أنه أسهم في مؤسسته واجتهد بما استطاع، فليس من الإنصاف أن نغمط حق إنسان قضى عمره في عمله، لكن القصة في الحقيقة تعكس واقع ضحيته وطن.
أربعة مليارات تطير سنويًا الى خارج الوطن عبر تحويلات مالية أكثرها من العاملين الوافدين الذين تزيد أعدادهم على أعداد العاملين العُمانيين. وما يُضاعف ذلك إنشاء شركات استقدام القوى العاملة الوافدة تدخل بين أروقة الجامعات والمؤسسات الصحية وغيرها، هُم يُسهمون بلا شك في نمو هذه القطاعات، لكن ذلك يعني زحفًا على قطاعات حيوية من الوافدين، ثم هيمنة على الوظائف التي يمكن أن يعمل بها أهل الوطن نفسه.
كنت أستمع إليه وأتخيل مشهد الاجتماعات عندنا حول المشاريع والرؤى أو قضية الباحثين عن عمل، اجتماعات تحيط بها أكواب الشاي والقهوة وتفوح منها رائحة الهيل، لكنها تخرج بنظريات اللوبي المُعشعش الذي أوعز لهم من خلف الجدار من خلال رأي أو فكرة يحوِّط بها مصالحه وشركاءه، ليضمن ان النتيجة سيكون مجملها صورة جماعية مع ابتسامات عريضة، لو كان العصف الذهني عندنا فعلًا عصفًا مُثمرًا لنتائج إيجابية، لاهتزت الطاولات تحت وقع الأفكار، ولتطايرت الرؤى كما يتطاير الشرر، ولتحولت الجلسات إلى مصانع قرار تولِّد المشاريع وتفتح الأبواب وتُغيِّر وجه الاقتصاد، لكننا آثرنا أن يظل المشهد أقرب إلى مسرحية يعرف الجمهور نهايتها قبل أن يبدأ العرض!
حين نتحدث عن مستقبل وطن يجب أن يكون الوطن حاضرًا في كل جملة الوطن أولًا لا أن تتوارى الوطنية خلف المجاملات التي تُذيب الحقائق وتتقاطع مع المصالح الشخصية، فلو أن مثلًا مقاعد تلك الاجتماعات امتلأت بعقول طلاب الجامعات والكليات، عقول صافية لم تُعكِّرها مصالح معقدة ولم تثقلها هموم، ولم تهددها اللوبيّات المعشعشة، كيف سيكون المشهد لو كُلِّف كل فريق من هؤلاء الشباب بدراسة سوقه المحلي واقتصاده ورسم حلول جديدة، عندها فقط لن تبقى الاجتماعات طقوسًا مكررة؛ بل ورش تفكير وطنية تتحول فيها الكلمات إلى مشاريع، وتتحول فيها أزمة الباحث عن عمل إلى فرصة يُولِّد منها عمل وحياة، وهنا نستحضر النطق السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه أن “الشباب هم ثروة الأمم وموردها الذي لا ينضب، وسواعدها التي تبني…”.
خلال زيارتي للصين وجدت مدينة تنهض كل أسبوع، ورأيت بلادًا تحولت إلى ورشة لا تهدأ، وفي ماليزيا وجدت أن الصينيين هناك قد زرعوا بذور معجزتهم في أرض غير أرضهم فأنبتت اقتصادًا مزدهرًا، ما يفرض التساؤل أين نحن من كل هذا؟ نحن العُمانيون الذين صنعنا السفن وخُضنا البحار، وأبدعنا في هندسة الأفلاج وزرعنا الأرض وصهرنا المعادن ونسجنا النسيج، تاريخنا شاهد أننا كنا صناع حضارة، أما اليوم فنبدو وكأننا متفرجون في مسرح التاريخ لا ممثلون فيه.
الحقيقة أن قدرات العُمانيين لا تقل عن قدرات أي شعب متقدم، لكن الفرق أن هناك لوبيات مصالح كأخطبوط يمد أذرعه في كل زاوية، يتحكم بالخيوط ويعيد ترتيب المشهد كما يشاء، وأحيانًا يكون العجز منا نحن حين نقنع أنفسنا أن الحل سيأتي من الخارج.
والأغرب أننا نعيش فوق ثروات لا تنتهي؛ موقع استراتيجي يربط الشرق بالغرب، وبحر يمتد لأكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر، وثروة سمكية تتلألأ تحت الأمواج، وتنوع أحيائي يجعل من كل شاطئ وجبل ووادٍ منجمًا من ذهب، ومع ذلك ما زالت هذه الكنوز في كثير من الأحيان مجرد أرقام في التقارير، بينما يمكن أن تكون مصانع بتروكيماوية تبتلع الغاز لتخرجه منتجات متقدمة، أو مجمعات لصهر النحاس والكروم والنيكل التي تنفرد بها أرض عُمان، أو مصانع للسبائك ومواد البناء تُصدَّر بدل أن نستوردها، ويمكن أن تكون أساطيل حديثة تحفظ للسمك قيمته وتطرحه للعالم بمنتجات تحمل شعار “صنع في عُمان”، ومناطق صناعية للطاقة النظيفة والهيدروجين الأخضر تجعل البلاد منارة جديدة في سوق الطاقة العالمية؛ بل إن بحر عُمان وموقعه الفريد قادر على أن يجعل من موانئنا قلوبًا نابضة بالتجارة، تدور فيها السفن كما تدور الكواكب في أفلاكها.
أليس هذا الامتداد الطبيعي لما فعله العُمانيون قديمًا في موانئ صور ومسقط وصحار عندما كانت سفنهم تنقل اللبان والنحاس والتمور والنسيج إلى الهند وشرق أفريقيا وبلاد فارس؟
هذه فرص واقعية يمكن أن تفتح أبواب رزق وتنعش اقتصادًا بأكمله، ومع ذلك ما زلنا أحيانًا نتعامل معها كما يتعامل أحدهم مع بطاقة صراف فارغة يلمعها ويفاخر بها وهو يعلم أنها بلا رصيد، وقد لخص السلطان قابوس طيب الله ثراه هذه الفلسفة حين قال إن ثروتنا الحقيقية هي في الإنسان العُماني الذي هو صانع التنمية وغايتها.
لنا أن نتخيل في أقل تقدير لو أن المحافظات صارت خيوطًا في شبكة اقتصادية متينة، الصياد في صور يبيع إنتاجه لمصانع التعبئة في الدقم، وهذه ترتبط بشركات الشحن في صحار؛ فيدور المال كما تدور فناجين القهوة في المجالس لكن هذه المرة بجدوى، وتخيَّل لو أن في كل محافظة مركزًا للذكاء الاصطناعي يراقب المياه ويُحسِّن الزراعة ويتابع السواحل ويصل المنتج بالسوق مباشرة، دون أن يتسلط عليه وسيط يقتات من عرق المزارع.
الحكومة لو خاطبت الشباب بشفافية واضحة وقالت: هذه حقيبة تحمل تصاريحك وحوافزك وتمويلك ودعمك الفني، اذهب وابدأ مشروعك ونحن معك، بدل أن يقضي سنوات عمره في طوابير انتظار المجهول، ولو أن الشركات الكبرى أنشأت جامعات تصنع خريجيها على مقاسها كما فعلت شركات العالم المتقدم، بدل أن نكرر الاسطوانة المشروخة “لا توجد كفاءات”.
كل هذا هو الممكن الأقرب لو تحررنا من ثقافة الاجتماع من أجل الاجتماع، وتجاوزنا عقدة انتظار المستثمر الأجنبي الذي قد لا يأتي أبدًا، ولو فعلنا ذلك لتحول الباحث عن عمل من طالب وظيفة إلى صانع وظيفة، ولأدرك العُماني أن وطنه لم يتركه وحيدًا في سوق مزدحم بوافدين يملكون علاقات أكثر مما يملكون مهارات.
في النهاية.. ما نحتاجه ببساطة أن نستبدل فناجين القهوة بمُحرِّكات أفكار، وأن نتوقف عن التعامل مع مستقبلنا بنقاشات عقيمة في مقهى رُسمت على جدرانه إنجازات الآخرين.