أحمد مسلم سوحلي جعبوب

 

 

هنا، في أعالي الجنوب العُماني من ظفار حيث تتعانق القمم مع الضباب، يقف جبل سمحان كأقدم خزائن الأرض وأكثرها كتمانًا لأسرار التطور النباتي والحياة الفطرية معًا. هناك، في موائل لا تصلها الأقدام إلا نادرًا، تختبئ أنواع لم تمنح العلماء أسرارها إلا حديثًا، لتكشف عن هوية بيئية لا تتكرر في أي مكان على وجه الأرض. وما إن اكتُشف Barleria samhanensis حتى أدرك العالم أن سمحان ليس جبلًا فحسب، بل أرشيف حياة يحتفظ بآخر صفحات الندرة النباتية في جنوب الجزيرة العربية.

منذ أن بدأ العلماء تدوين ملامح التنوع الحيوي في جنوب الجزيرة العربية، ظلّ جبل سمحان يشكّل علامة فارقة في تاريخ النبات، كأنَّه الجبل الذي آثر أن يخفي أسراره لقرون قبل أن يبوح بها للبحث العلمي الحديث. هذا الجبل الشاهق الذي يحتضن السحاب ويطلّ على محيطات من الضباب والوديان السحيقة، لم يكن يومًا مجرد تضريس جيولوجي، بل كان مختبرًا طبيعيًا معزولًا صاغته الطبيعة لتجاربها التطورية الأكثر دقة وندرة.

وفي عام 2007 تغيّر سجل النباتات في العالم حين اكتُشف النوع Barleria samhanensis من الفصيلة الأقنثية الشوكية، نباتٌ لا يعرف وطنًا غير قمم سمحان ولا يعيش خارج نطاقه، فحمل اسمه العلمي تكريمًا للجبل الذي صاغه. لم يكن هذا الاكتشاف حدثًا عابرًا، بل كان إعلانًا بأنَّ سمحان هو خزان الندرة الأول في المنطقة وأحد أهم مراكز التوطن النباتي في الشرق الأوسط.

لقد أثبتت الأبحاث الحديثة أن سمحان يُعد مركزًا عالميًا للأنواع المستوطنة، إذ تتواجد فيه نباتات لا يتجاوز انتشارها بضعة كيلومترات، بعضها لا ينمو إلا في شقٍ صخري واحد، أو على منحدر يواجه الرياح الموسمية وحده. وقد نشأت هذه الندرة عبر آلاف السنين من الانعزال الجغرافي، والتباين المناخي، والتدرجات البيئية التي لا تتكرر في أي مكان آخر.

وتشير الأدلة البيئية إلى أن الجبل يحتوي على أعلى نسبة من النباتات ضيقة الانتشار، مقارنة بجبال الجزيرة العربية، ما يجعله سجلًا تطوريًا حيًّا يروي قصة الأرض عبر حقب طويلة تبدّلت فيها الأجواء، وتحوّلت فيها القارات، وتراجعت فيها البحار. فسمحان ليس موطنًا لنباتات نادرة فحسب، بل هو أرشيف طبيعي يحتفظ بذاكرة المناخ القديم وأنماط الحياة التي اندثرت في مناطق أخرى.

إن تضاريس الجبل العمودية، ومنحدراته الوعرة، وتعرّج وديانه، وتفاوت مستويات الرطوبة والضباب، صنعت جميعها ظروفًا بيئية معقدة سمحت لظهور سلالات لا تجد مثيلًا لها. فكل قمة في سمحان تحمل نوعًا ذا قصة تطورية منفصلة، وكل صدع صخري قد يضم نباتًا لم يُسجَّل خارج تلك البقعة. ولعل Barleria samhanensis كان أحد هذه الكنوز التي لم تكشف نفسها إلا حين اكتمل نضج البحث العلمي في المنطقة.

لكن هذه الخصوصية البيئية التي صاغت جمال سمحان تحمل في الوقت ذاته هشاشة عالية. فالنباتات التي تعيش على قممه—ومنها الأنواع المستوطنة حديث الوصف—قليلة الانتشار للغاية، وهي مهددة بشكل مباشر بفعل تغيّر المناخ، وانحسار الضباب، وتدهور الموائل الطبيعية، والرعي الجائر، وتحديات أخرى متعددة كالضغط الطبيعي والبشري. وندرة هذه الأنواع ليست دليل قوة، بل نداء إنذار بأن الجبل يحمل آخر مخزون للعشرات من النباتات التي قد تختفي إذا لم تُتخذ خطوات علمية واضحة.

ومن هنا يصبح الواجب العلمي والوطني واضحًا: لا بدّ من استزراع الأنواع النادرة في مشاتل متخصصة لضمان استمرارها خارج موائلها الطبيعية، والعمل على إعادة تأهيل البيئات الجبلية وحمايتها من التدهور، وكذلك إنشاء محمية متخصصة في جبل سمحان تُعنى بالنباتات المستوطنة والنادرة، وتشكل مركزًا للبحوث وحفظ السلالات النباتية التي لا تملك موطنًا بديلاً في العالم.

إن سمحان، بتاريخِه، وارتفاعه، ومناخه، وتنوعه، ليس مجرد جبلٍ شامخ؛ إنه أمانة جغرافية وتاريخية وبيئية، وما حواه من نباتات فريدة هو إرث عالمي يستحق أن يُصان بعلمٍ واعٍ ورؤية تمتد إلى المستقبل.

الاسم المحلي للنبات: “لِقِزِتأ”


صور (1).jpg
صور (1).jpeg
 

شاركها.