خالد بن حمد الرواحي
حين تغيب روح الفريق، ويضيع الإبداع في كل مؤسسة، هناك من يعمل بصدق، يؤدي مهامه بإخلاص، ويأمل أن يلقى تقديرًا من قائده. لكن ما أقسى أن تعمل في إدارة صامتة؛ لا تسأل، لا تشكر، ولا توجّه. تكتفي بالمراقبة، كما لو أنها جدار بلا حياة.
يتحدث أحد الموظفين عن ستة أشهر قضاها يرسل تقارير أسبوعية بكل جدية، دون أن يتلقى أي تعليق. لا ملاحظة، ولا إشادة، ولا حتى تأكيد بالاستلام. يقول: “كنت أُرسلها بانتظام، لكنني بدأت أشك إن كان أحد يقرؤها أصلًا… وكأنني أكتبها لأحتفظ بها لنفسي فقط “. في تلك اللحظة، لم يشعر أنه جزء من فريق، بل مجرد شخص يعمل في فراغ، بلا هدف واضح.
الإدارة الصامتة ليست هدوءًا حكيمًا كما يظن البعض، بل غياب مؤلم لصوت القيادة. الصمت إذا طال، لا يعني النضج، بل يشير إلى غياب الوعي الإداري. كل شيء يصبح باهتًا، الاجتماعات بلا حرارة، والمبادرات تولد ميتة، والأفكار الجميلة تتلاشى لأنها لم تلقَ كلمة تشجيع واحدة.
بعض القادة لا يدركون أن التواصل في بيئة العمل ليس رفاهية، بل ضرورة. مجرد كلمة قد تعيد الحماس، ونظرة تقدير قد تمنح الموظف دفعة للاستمرار. لكن حين لا يسمع الموظف صوتًا ولا يرى تفاعلًا، يبدأ في طرح أسئلة تقلقه: هل أنا غير مرئي؟ هل أخطأت؟ لماذا لا أحد يرد؟ هذه الأسئلة البسيطة قد تترك أثرًا نفسيًا عميقًا وتؤثر تدريجيًا على أداء المؤسسة.
تشير بيانات مؤسسة “غالوب” الأمريكية (2023) إلى أن ضعف تواصل القادة مع الموظفين يكلف الاقتصاد العالمي حوالي 8.8 تريليون دولار سنويًا، أي نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. رقم ضخم يُظهر بوضوح حجم الضرر الناتج عن غياب التفاعل داخل بيئات العمل.
كم من فكرة ضاعت، وكم من حماس خمد، فقط لأن المدير لم يطرح سؤالًا بسيطًا، أو لم يقل كلمة تشجيع. في علم الإدارة، يُعرف هذا الجانب الإنساني بـ “التنظيم غير الرسمي”، وهي تلك العلاقة الإنسانية التي يبنيها القائد مع موظفيه في لحظات بسيطة ومواقف إنسانية. هذه العلاقة لا تقل أهمية عن اللوائح الرسمية، بل تدعمها وتقوّيها. لكنها لا تُبنى وحدها، بل تحتاج إلى قائد حاضر وقريب.
وفي المقابل، ما أجمل الأثر الذي يتركه القائد حين يكسر حاجز الصمت بكلمة دافئة أو التفاتة صادقة. عندما يتحدث القائد بتواضع ويستمع بمحبة، يشعر الموظف أنه مهم، مرئي، ومحل تقدير. هذه المبادرات قد تبدو صغيرة، لكنها تُعيد الحياة لفريق العمل، وتزرع الثقة والانتماء.
للأسف، يظن بعض القادة أن الصمت يعطيهم الهيبة، وأن البعد عن الفريق يمنحهم قوة. لكن الحقيقة أن القائد الذي لا يُرى ولا يُسمع، لا يُلهم. وهناك من يشغل منصبًا قياديًا دون أن يتحلى بصفات القيادة الحقيقية. لا يرد على الرسائل، ولا يتصل، ولا يبادر بالتواصل حتى في المواقف الحرجة.
الأسوأ من ذلك أن يستمع القائد لأحاديث سلبية عن موظفيه دون تحقق، فيبني انطباعاته من طرف واحد، ويغلق باب العدالة. قرارات خطيرة قد تُتخذ بناءً على رأي شخصي، لا على أداء حقيقي. وهكذا، تتحول المؤسسة إلى بيئة متوترة، يغيب عنها العدل وتضعف فيها الثقة.
الفرق بين إدارة نابضة بالحياة وأخرى باهتة، هو صوت القائد؛ حين يُشجّع، يُنصت، ويُشارك. فالإدارة الناجحة ليست صمتًا يُغرق الفريق في الظنون، بل حوار مستمر يمنح كل فرد شعورًا بالأهمية.
لسنا ضد الصمت، بل ضد أن يتحول إلى حاجز بارد بين القائد وموظفيه. فالمؤسسات لا تُبنى بالتعاميم وحدها، بل بكلمة إنسانية تُقال في وقتها، وسؤال يُشعر الموظف أنه مرئي، ونظرة تقدير تُبقي الموهبة في مكانها.
المؤسسات لا تتقدم بالأنظمة وحدها، بل بالقلوب التي تنبض داخلها. قائد يُصغي، كلمة تُشجّع، ونظرة تُقدّر. لسنا بحاجة لقرارات ضخمة لنحدث فرقًا، بل إلى لحظات إنسانية تُعيد الدفء إلى العمل. فـ “شكرًا” في وقتها، قد تكون أقوى من ألف شعار. ابدأ بها اليوم… وازرع في مؤسستك روحًا تُلهم الجميع.