سعيد بن محمد الجحفلي

صناعة المال والاشتغال به زُخرفٌ وغرورٌ، يُنتجان الدَعة والخمول، وصناعة القوة والاعتداد بها ينتج القدرة على ما يُخشى ويُهاب منه، وفي كليهما ما يحرض على توليد أنواع من الصراع الذي يغري بمكاسبه في الأول ويخشى من عواقبه وقوته في الثاني وهذا الذي نعيش أحداثه.

لسنا هنا بصدد استدعاء الأدوار واستحضار ألم فظاعاتها فيما شهدته المنطقة من أحداث لأنها لا تنفع، وتوظيفها يُدمي ويشين، فحياة المسلمين فيها من الفرقة ما يُكرس الضعف ويذهب الهيبة ويولد الأحقاد؛ حيث نرى تحقق هذا عيانًا في منطقتنا التي تتعاظم فيها المصالح السياسية والاقتصادية بين الطامعين في ثرواتها فما نسبته 20% من إجمالي النفط العالمي يُصدّر من الخليج العربي، إضافة إلى رُبع الانتاج العالمي من الغاز المُسال، وهذا يُشير إلى حجم الثروات المالية المُحصَّلة من عائدات النفط والغاز.

ولا نُنكر استثمار دول الخليج مبالغ طائلة من هذه الثروات لرفاه شعوب المنطقة واستقرار بلدانها، فنشطت التجارة وتعالت الأبراج وزادت المجمعات التجارية الضخمة وتوافد الملايين من العمالة الأجنبية للاستفادة من هذه الفُرص وزيادة هذا العدد يشكل خطرًا محدقًا باختلال منظومة القيم الاجتماعية في التركيبة السُكانية لدول المنطقة، وهي إحدى الضرائب المصاحبة لزيادة نسبة أعداد الوافدين مقابل عدد السكان المواطنين، ولا نعرف حجم أضرار هذه الظاهرة مستقبلًا، لكنها ستحدث لا محالة.

وفي الضفة الشرقية من مياه الخليج تعمل الجمهورية الإسلامية الإيرانية على المبدأ القائل “إذا أردت السلام فاستعد للحرب”، ولتحقيق هذا اقتطعت من عوائدها المالية لبناء ترسانة عسكرية قوية رُغم العقوبات التي تُمارَس عليها لأنها تعرف حجم طموحها في المنطقة وما يحتاجه دورها من قوة لإدارة صراعها مع المنافسين؛ حيث وجد الطرفان في هذا الصراع فرصًا لاستثماره في مختلف المجالات وكأنهما يتبادلان الأدوار بيوم لك ويوم لي. وإيران بأيدولوجيتها الخاصة حلّقت خارج السرب مُنتهجة سياسة التمّكين والردع العسكري؛ حيث بَنَتْ ترسانة عسكرية قوية من الصواريخ البالستية فرط صوتي ومختلف أنواع الأسلحة الهجومية بطيرانها المسير، وأصبحت قوة عسكرية إقليمية مُهابة ويُحسب لها الحساب لأنها اشتغلت لصالح أجندتها بإرادة سياسية قوية والغرب أتاح لها الفرصة لزيادة قوتها وتعزيزها في المنطقة؛ فهناك لُعبة يجب أن يجيد المشترك فيها كيف يستثمر بذكاء ظاهرًا وباطنًا دون توقف، ومن تجسيداته كان تخصيب اليورانيوم مشروعًا وطنيًا في البرنامج النووي لإيران مما زاد التهديدات الأمريكية والإسرائيلية والغربية عليها، مع همسات رافضة للمشروع من قبل دول المنطقة.

ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن إسرائيل هي أكثر الدول تحريضًا على المشروع النووي الإيراني، لخوفها من النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، لأن عقيدة الكيان الصهيوني مبنية على المزيد من التوسع والتفوق وفرض الهيمنة العسكرية ولكنها لم تجرؤ على مواجهة إيران عسكريًا خلال السنوات الماضية، بسبب رفض أمريكا ضرب إيران لأمرٍ معلوم في نفسها، ولكن ما ظهر في صفقات ترامب الأخيرة مع بعض دول الخليج كان أعظم لاستعجال منح الكيان الصهيوني الضوء الأخضر بالهجوم على إيران والتعهد بدعمه بما يلزم عملًا بمبدأ تحقيق السلام “من خلال فرض القوة”.

إن الكيان الصهيوني يقدِّر تمامًا قوة الرد الذي سيتعرض له من قبل إيران وحلفائها في المنطقة ولهذا عملت طويلًا على تقوية بالغ أثره مع أول ضربة، فصدمت بالرد الإيراني السريع عليها وأصبحت الحرب ضروسًا بين الطرفين ولا أحد يستطيع أن يتكهن بمآلاتها أو المدة الزمنية التي ستستغرقها مع إعلان باكستان وقوفها الداعم والمساند لإيران لأنها تعلم يقينًا أن الدور سيكون عليها لاحقًا في حال هزيمة إيران…. وإسرائيل كما قلنا هي مشروع غربي صهيوني توسعي لضم المزيد والمزيد من الأراضي العربية فلن تكتفي باحتلال فلسطين فقط، والذي يُوهم نفسه بأن التطبيع مع هذا الكيان النشاز مكسب فقد خسِر الرهان، لأنه جسم مرفوض في بيئة طاردة ومعادية له ونحن الآن نعيش في مرحلة ما يُسمى بـ”الهيمنة المُنظَّمة” من قبل أمريكا وحلفائها الغربيين الذين يبتزون البشرية باسم حقوق الإنسان وهم أول من يتنكرون لحقوق الغير إذا خالفت توجهاتهم؛ بل ويصوتون لاستمرار القتل والدمار بحق ” الفيتو ” الذي يملكونه… هذا العالم المتوحش لا يرحم الضعيف ولا يحترم الصديق مهما أجزل العطايا والهِبات، لأنه عالم لا يعترف بقانون ولا بحقوق إذا لم تحمها قوة.

وفي خضم هذا الصراع فإن دول الخليج تربطها بإيران علاقات تاريخية ومصالح مشتركة في الاقتصاد والثقافة والجغرافيا، لهذا حرِصت مع زيارة ترامب مؤخرًا لها أن تحصل منه على ضمانات بعدم مهاجمة إيران عسكريًا من قبل أمريكا، لأن المنطقة كلها ستصبح في خطر داهم، فإيران هددت بضرب كل القواعد الأمريكية في منطقة الخليج في حال تعرضها لعدوان أمريكي، لذلك تم رفع سقف العقود التجارية لإرضاء الضيف الأمريكي الذي تزداد شهيته للصفقات المليارية التي يجب أن تتوافق مع شروطه ومواصفاته الخاصة، فتحقق له ما يُريد مع فرحة غامرة وتنافس محموم من قبل الدول الموقعة للصفقات، حيث غابت عن تلك التفاهمات الإبادة الممنهجة في غزة وكأنها لم تكن، لأنَّ مزاج الضيف موجه من قبل اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل، فلا أحد يجرؤ أن يُعكَّر مزاجه ويُنقِّص عليه فرحته بهذه الصفقات الرائعة حسب وصفه.

هنا تبخر جزء كبير من عائدات استثمار الأبراج والمجمعات التجارية للدول الموقعة على الصفقات أمام ابتزاز من يملك القوة والهيمنة العسكرية.

وفي المقابل، عاندت إيران أمريكا وإسرائيل، فقد استثمرت أموالها في صناعة القوة لحماية مشروعها الذي تخافه دول المنطقة قبل الكيان الصهيوني وكان الخيار لها، إما أن تخضع للمشروع الصهيوني الأمريكي أو أن تخوض نزالًا وجوديا معها، فكان خيارها هو الأخير.

شاركها.