د. هبة محمد العطار **
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتعبير الحُر عن الرأي أو تبادل الخبرات الإنسانية؛ بل تحولت في كثير من الأحيان إلى فضاءات للفوضى الرقمية التي تُعيد تعريف مفاهيم الخصوصية، والحرية، والمسؤولية في عصر الانفلات الرقمي، إذا صح التعبير!
في ظل إتاحة خاصية البث المباشر وسهولة تصوير الآخرين دون إذن، أصبح الإنسان المعاصر مهددًا في أكثر دوائره حميمية، حيث يمكن لعدسة هاتف عابرة أن تُحوّل لحظة خاصة إلى قضية رأي عام، وتُنتج حكمًا جماهيريًا يسبق حكم القانون والعقل معًا.
وعلى الرغم من أن البث المباشر يمثل حرية شخصية للفرد فيما يخص حياته الخاصة، إلا أن القانون لا يعترف بهذه الحرية إذا كانت البثوث مخالفة للأخلاق والآداب العامة، أو تمسّ سلامة واستقرار الأمن، أو تُثير القلق ونشر الفوضى. وهنا تتجلّى أهمية وعي المستخدم بقيمة المسؤولية الفردية، حتى لا تتحول الحرية إلى أداة لانتهاك خصوصية الآخرين أو للتأثير السلبي على الرأي العام.
الفلسفة هنا لا تنفصل عن الواقع؛ ففكرة “الوجود أمام الكاميرا” صارت نوعًا من الوجود القسري الذي يُسلب فيه الفرد حقه في أن يكون “خارج المشهد”.
وتوظيف البث المباشر أحيانًا بغرض الإدانة أو التشهير أو تحريك التعاطف الجماعي لتوجيه قرارات مؤسسية أو سياسية يمثّل انتهاكًا مزدوجًا: انتهاكًا لكرامة الإنسان، وتغولًا على دور المؤسسات القانونية في الحكم والردع.
كما إن الضغط على الرأي العام عبر اللقطات المنتقاة والمشاهد الموجهة يُعيد إنتاج السُلطة الرمزية للجمهور على حساب سُلطة القانون والعقلانية العامة؛ مما يؤدي إلى قرارات قد تبدو “عادلة جماهيريًا” لكنها ليست بالضرورة صحيحة للصالح العام.
ومن زاوية فلسفية، فإننا نعيش ما يمكن تسميته بـ”عصر الانكشاف الكامل”؛ حيث أصبح الهاتف المحمول أداة للتجسُّس الطوعي، والفرد ذاته مشارك عن قصد أو جهل في إنتاج منظومة من المراقبة الذاتية والبلبلة الجماعية.
الإنسان الرقمي المعاصر يتقمص دور الصحفي، والمحقق، والناقد؛ بل والقاضي، مستندًا إلى ما يمتلكه من أدوات تصوير وبث، دون امتلاك أدنى وعي أخلاقي أو قانوني بعواقب ذلك.
القضية إذن ليست تقنية فحسب؛ بل وجودية وأخلاقية. ولم يعد الهاتف المحمول وسيلة اتصال؛ بل صار سلاحًا ناعمًا لتفكيك الخصوصية، وتشويه السمعة، وصناعة الاضطراب.
وقد أدركت العديد من التشريعات الحديثة هذا الخطر، فوضعت مواد قانونية تُجرم تصوير الآخرين أو بث مقاطع تمس حياتهم الخاصة دون موافقة مسبقة، إلى جانب مواد أخرى لمكافحة الشائعات والابتزاز الإلكتروني.
وتبرز هنا أهمية الجهات الرقابية والقانونية والإعلامية في ضبط هذا الفضاء، عبر تفعيل أدوار النيابة أو الادعاء العام، ووحدات مكافحة الجرائم الإلكترونية، والجهات الرقابية والتنظيمية للإعلام، لتأمين الفرد وحمايته من التعدي على خصوصيته أو استخدام صوره وأفعاله في توجيه الرأي العام دون سند حقيقي.
تفرض طبيعة الانفلات الرقمي الراهن ضرورة تحديث التشريعات الرقمية بما يواكب أشكال الانتهاك الجديدة الناتجة عن البث المباشر أو التصوير دون إذن؛ إذ لم تعد النصوص القانونية التقليدية كافية لضبط هذا الواقع المتغير؛ مما يستدعي سنّ مواد واضحة تُجرّم التعدي على الخصوصية أو استغلال الصور والمقاطع في التحريض والتشهير أو توجيه الرأي العام بطرق مغلوطة. ومع الجانب القانوني، لا بُد من تعزيز الوعي الإعلامي والرقمي من خلال برامج تعليمية وتدريبية تُدرّس داخل الجامعات والمدارس والمؤسسات الإعلامية، لترسيخ مفهوم الأخلاق الرقمية وتحديد حدود الحرية في الفضاء العام بحيث لا تتحول حرية التعبير إلى وسيلة للإيذاء أو التشويه.
وفي إطار المواجهة العملية، يصبح من الضروري إنشاء وحدات رصد فوري داخل الجهات المعنية مثل الوزارات أو المجالس أو الهيئات المنوطة بتنظيم الإعلام ووحدات مكافحة الجرائم الإلكترونية، لرصد أي محتوى أو بث ينتهك الخصوصية أو يهدد الأمن المجتمعي، مع وضع آليات فعّالة للإبلاغ والاستجابة السريعة. ويكمل ذلك الاهتمام بضرورة تأهيل الإعلاميين وصنّاع المحتوى عبر برامج مهنية تتضمن مبادئ الخصوصية والتحقق من المعلومات وأخلاقيات النشر، لضمان أن يظل الإعلام وسيلة للوعي لا أداة للفوضى. كما يبرز الدور الحيوي للمجتمع المدني في إشراك الأفراد في ثقافة المسؤولية الرقمية، بحيث تتحول الرقابة من سلطة قهرية إلى وعي جماعي يحمي الأفراد من الانتهاك ويحافظ على توازن الحرية والخصوصية في المجال العام.
إنَّ تحقيق هذه المقترحات مجتمعة يُعيد ضبط العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا على أساس من الوعي الأخلاقي والقانوني، ويحول الفضاء الرقمي من ساحة للجدل والابتزاز إلى مساحة للفكر والتفاعل الإنساني الراقي. وفي النهاية، يظل جوهر الأزمة ليس في التكنولوجيا ذاتها؛ بل في الإنسان الذي يستخدمها؛ فوسائل التواصل في أصلها امتداد لعقل الإنسان، لكن عندما يُفرغها من الوعي والمسؤولية، تتحول إلى أدوات للانكشاف والتضليل. إن إعادة التوازن بين الحرية والخصوصية، وبين التعبير والمسؤولية، هي التحدي الأخلاقي الأعمق لعصرنا الرقمي، وهي معركة الإنسان من أجل أن يظل إنسانًا لا مادةً للعرض.
** أستاذة الإعلام بجامعة سوهاج في مصر، وجامعتي الملك عبد العزيز وأم القرى بالسعودية سابقًا
