الطليعة الشحرية
كلما تقدمتُ خطوةً في دهاليز هذه المؤسسة، بدا لي أنني لستُ في مكتبٍ؛ بل في مسرح حيوانات مُتنكِّرة، الذبابةُ فرضت نفسها بالطنين، والحرباء حافظت على بقائها بالتلوُّن، وكلتاهما جعلتني أتساءل: هل ثمَّة كائنٍ آخر يبتكر أسلوبًا مختلفًا للظهور؟ لم يطُل بحثي، فما هي إلّا جلسة أخرى حتى سمعتُ صوتًا عجيبًا يملأ القاعة، لم يكن صوت فكرة جديدة؛ بل كان صدى قديمًا أُعيد بعُلوٍّ أكثر.
عندها أدركتُ أنني على موعد مع شخصية أخرى: الببغاء، كائنٌ لا يُتعب نفسه بالخلق؛ بل يكتفي باستعارة ألسنة الآخرين ليُخيَّل إليهم أنه مُتكَلِّم.
في الاجتماع الكبير، وقف زميلنا “المُفكِّر” يعرض اقتراحًا مبتكرًا لإصلاح سير العمل. كان حديثه هادئًا، عميقًا، مشغولًا بالجوهر لا بالشكل أصغيت إليه بإعجاب.
وقلت في نفسي:
“ها هنا عقلٌ يستحق أن يُسمع”.
لكن لم تمضْ دقائق حتى اهتزت القاعة بصوت آخر، صوتٌ مرتفع، مزهوّ، يردد ما قاله المفكر حرفًا بحرف، مع تغيير بسيط في ترتيب الجمل، كان الببغاء قد دخل المسرح.
وبينما كان الجو يُهيمِن عليه صمت الترقب، تخيلتُ المشهد كأنني جالسة في مسرحٍ قديم. الستارة ارتفعت ببطء، وإذا بالببغاء يدخل بخطوات واثقة، ينفض ريشه كمن يتهيأ للعرض. عيناه تبرقان بلمعانٍ زائف، وصدره منتفخٌ كأنه سيخرج للعالم بمعجزة. غير أنني كنت أعلم كما يعلم الجمهور الخبير أن ما سيقوله ليس سوى صدى محفوظ، نسخة باهتة من صوتٍ أصيل سبق أن سمعناه. كان يتدرّب في داخلي كالممثل الذي لا يملك نصًا إلّا ما اقتبسه من غيره، لكنه يظن أن الصدى إذا ارتفع صار أصلًا.
وهنا أطبقت الستارة في خيالي، فعادت عيناي إلى القاعة، فإذا بالببغاء واقف أمامنا حقًا، يتهيأ لإلقاء كلمته كما لو كان ما تخيلته مشهدًا مسرحيًا تحقق على الخشبة.
قال بثقة مُصطَنعة:
ــ “لديّ فكرة ثورية ستغير مسار المؤسسة! يجب أن نعيد النظر في آلية العمل ونُدخل عليها تطويرات جذرية”.
صفَّق بعض الحاضرين إعجابًا، وكأنهم يسمعونها لأول مرة، أما المُفكِّر الأصلي فجلس مطرقًا، يبتسم بمرارة.
بعد الاجتماع، اقتربتُ من الببغاء وسألته:
ــ “ألم يكن ما قلته هو ما قاله غيرك منذ لحظات؟”
أجابني وهو ينفش صدره:
ــ “وماذا في ذلك؟ الحكمة لا تُقال مرة واحدة. الناس لا يسمعون إلّا الصوت العالي. أنا قلتها بصوتٍ أوضح، فأصبحت لي”.
أدركتُ حينها أنه لا يسعى إلى إنتاج فكرة؛ بل إلى امتلاكها بالضجيج، إنه يعيش وهمًا نفسيًا غريبًا؛ أن الصدى يساوي الأصل، وأن العلو في الصوت يغني عن العمق في المعنى.
سمعته لاحقًا يحدث نفسه في الممر:
“لماذا أُتعب عقلي بالبحث عن جديد، ما دام صدى الآخرين يكفيني ليُصفقوا لي؟”
قبل أن أكتب ملاحظتي، دار في داخلي حوار صامت:
ــ “أيعقل أن يكون هذا الصوت الصاخب بلا جذر؟ أن يعيش إنسان حياةً كاملة وهو لا يملك سوى أصداء الآخرين؟”.
فأجابتني نفسي:
ــ “كثيرون يظنون أن العلو في النبرة يغني عن العمق في الفكرة، وأن من يكرر يكفيه الترديد ليُحسب مبتكرًا.”
ــ “لكن ألا يفضحه الزمن؟ ألا يُسقط عنه الأقنعة؟”.
ــ “بلى، الزمن لا يُبقي إلا الأصل، أما الصدى، فيتلاشى ما أن ينطفئ الصوت الأول.”
عندها أطرقت طويلًا، ثم عدت إلى دفتري لأكتب كلمتي الختامية:
الببغاء ليس كائنًا يبتكر أو يلد فكرة، بل هو رمز الخواء الملوَّن بالصوت، يعيش على ألسنة غيره كما تعيش الطفيليات على أجساد العائل، ويستمد أنفاسه من حناجر الآخرين. كلماته ليست منه، بل استعارة مسروقة من أفواه سبقته، لكنه يكسوها بألوانٍ صاخبة ليُخيَّل للسامعين أنها وليدة لحظته.
قد يصفق له القوم اليوم لأنهم انخدعوا بالرنين العالي، ولأن الأذن قد تنبهر بالصوت قبل أن تنصت إلى المعنى، لكنه لا يدرك أن التصفيق لحظة عابرة، وأن السؤال عن الأصل آتٍ لا محالة، من أين جاءت الفكرة؟ وما الجذر الذي خرجت منه؟ وحين يُسأل، تنكشف حقيقته؛ فإذا هو ليس سوى صدى أجوف، يردده بلا وعي، بلا روح، بلا بصمة تخصه.
إنه الممثل الذي يعتلي المسرح بلا نص خاص به، فيردد ما حفِظه من غيره، ظانًّا أن العلو في النبرة يغني عن العمق في الفكرة، لكنه حين تُطفأ الأضواء، ويُفتش النقاد عن الجوهر، يُفضَح ضعفه، ويُكتشف أنه عاش عمره في تقليدٍ لا يلد حياة.
كتبتُ في دفتري:
“الببغاء يُبهرك أول وهلة كما يُبهر الضوء العابر في الظلام، لكن حين تتبين الطريق، تكتشف أنه لم يُضئ لك شيئا إنما هو صدى يملأ الفراغ، لا صوتًا يصنع المعنى”.