د. عبدالله باحجاج
قابلتُ شابًا يعمل في أحد المراكز التجارية الكبيرة في ولاية صلالة، وكنتُ أعرفه منذ فترة زمنية، سألته عن أحواله في العمل، ففاجأني على الفور قائلًا “إنني الآن مع مجموعة من المواطنين في انتظار التسريح”، وأضاف “نحن الآن بين الترغيب المالي بثلاثة أشهر مقدمًا من أجل تقديم الاستقالة أو الترهيب بنقلنا لمسقط”، سألته لماذا؟ أجاب قائلًا “لأن مرتباتنا الشهرية قد بلغت 500 ريال، وهذا يعتبرونه سقفًا أعلى ينبغي التسريح، وتعيين آخرين بمرتبات أقل.
هذا المركز التجاري يحتوي كذلك على مجموعة مرافق سياحية وتسلية، ولمستثمرين أجانب، ولا يُعاني من مشاكل مالية، وبالتالي لا بُد من أن يُطرح هنا تساؤل عن حماية كرامة مثل هؤلاء المواطنين واستقرارهم النفسي والاجتماعي؟ وتساؤل آخر عن مستقبل الوطن الاستثماري في ظل تصاعد ظاهرة التسريح؟ فلا بُد من إيجاد حلول تشريعية صارمة في اتفاقيات الاستثمارات حتى لا يفقد جيلنا الجديد نعمة الاستقرار النفسي والاجتماعي، ولها سلبيات عميقة لا تُعد ولا تُحصى.
قضية هؤلاء الشباب وراؤها إشكالية أخلاقية، لأن وراءها تحايل على حقوق مواطنين مكتسبة، ولأنهم أي المواطنين سيكونون ضحية الإقصاء المالي الذي يُقيِّم العاملين ماليًا وليس على أساس معايير الوطنية والكفاءة والخبرات. وعجبي: أي عدالة ومنطق؟ وفي أي حقبة من طغيان المنافع إذا ما سمحنا للشركات بتسريح مواطنين بحجة أن مرتباتهم قد ارتفعت بحكم السنوات وما اكتسبوا من خلالها خبرات وأصبحوا من الكفاءات!! وهذه الشركة ليست الوحيدة، ولن تكون الأخيرة التي تفكر بهذا النوع من الإقصاء؛ لأن التفكير العام السائد بعد التحولات المالية في البلاد هو “البرجماتية القاسية” ضد المواطنين، وحتى بعض القرارات تتخذ من منطق النفعية السريعة، لن نستشهد هنا بأمثلة عامة وعمومية، فيكفي بهذا الطرح أن يوجهنا إلى مسارات محددة، وما تزال تحدث هزات في الاستقرار الاجتماعي حتى الآن، وما حدث في بعض الشركات الحكومية كالطيران العُماني؛ مما أصبح نهجًا ممتدًا للقطاع الخاص بقسوة النفعية.
إننا نستدعي هنا مقولة الأمير ميكافيللي الشهيرة “الغاية تبررها الوسيلة”؛ فالغاية في حالتنا المعروضة هنا، التخلُّص من أصحاب المرتبات 500 ريال وتوظيف وافدين أو مُواطنين جُدد بالحد الأدنى للأجور في البلاد 325 ريالًا. وهنا التساؤل، هل مرتبات 500 أصلًا تُصنَّف بأنها مرتفعة؟ فالمرتبات لا ينظر إليها بصفتها المجردة وإنما بقيمتها في تأمين الأساسيات الحياتية للمواطنين سواء لجيل الشباب أو أصحاب الأسر، وبحجم الشركات ومنافعها في بلادنا، عندها تسقط “المرتفعة” في وادٍ سحيق، وتنتج في الوقت نفسه مسارات سلبية خطيرة مثل صناعة الخوف، وثقافة الصدمات، واعتبار أي استقرار وظيفي أو مهني مؤقتاً، وتفكك أركان أساسية بُنيت منذ النهضة العُمانية الأولى التي انطلقت عام 1970، كالرعاية مقابل الولاء والانتماء، وتلكم انعكاسات حتمية لهكذا تسريح قاسٍ.
التسريح لا يصيب العامل/ الموظف في ذاته؛ بل يُحدث هزات عميقة داخل الأسر، ويغتال أحلام الشباب في بناء مستقبلهم، وإذا كان جذب الاستثمار الأجنبي وإغراؤه بالمجيء لبلادنا ستكون تداعياته مثل تلكم المحددات، فلسنا بحاجة إليه، ودعونا نُركِّز على إمكانيات بلادنا الذاتية، فلدينا الأموال التي تُستثمر في الخارج عن طريق جهاز الاستثمار العُماني يمكن توطينها وتوظيفها في قطاعات الزراعة والأسماك والثروة الحيوانية وإقامة مصانع متعددة، بما يضمن توليد الإيرادات، وتوفير فرص العمل، عوضًا عن استثمارها في الخارج إذا لم نتمكن من إيجاد الحلول التي تحافظ على كرامة المواطن واستقراره في الاستثمارات الأجنبية على وجه الخصوص.
لا بُد من وقف هذا النوع من التسريح وإعادة النظر في منظومات حماية الكرامة والاستقرار النفسي والاجتماعي للمواطن؛ فذلك من شأنه أن يحافظ على بوصلتنا الوطنية الراسية والأفقية فهذه البوصلة قد حصَّنت ديموغرافيتنا وجغرافيتنا من أي ارتباطات خارجية أو أيديولوجية أو متطرفة أو مسلحة عابرة الحدود طوال أكثر من 50 عامًا، وهى لا تزال صالحة زمانا ومكانًا، لأنها تتماهى مع طبيعة الأبعاد الاجتماعية والفكرية والنفسية والسياسية لركن الدولة الديموغرافي المتفرد في ذاته داخل منطقته، وشعوره بأنه مُنتج الأشكال السياسية المتعاقبة، وبأنه مصدر شرعيتها وديمومتها، ولا ينبغي أن نجعل من بعض اتجاهات السياسة المالية والشركات الحكومية والخاصة تقلب التوازنات داخل منطقة حساسة جدا، وفي حقبة الأطماع الجيوسياسية والاختراقات الداخلية.
كلنا ثقة بأن الجهات الحكومية المختصة بهذا الملف ستتدخل للوقوف مع هؤلاء الشباب عندما تظهر فوق السطح، وربما قبلها، لكن، ليس هذا الحل المثالي، فلا بُد من تشريعات وإعداد كوادر وأطر تدير النفعية المكيافيلية وتشيع الطمأنينة للمواطنين، وتحافظ على العقد الاجتماعي القائم على الرعاية مقابل الولاء والانتماء، ودون هذه المعادلة فهل ملفات التسريح والباحثين عن عمل والتعقيدات التي تطال معيشة المواطنين تحافظ على معادلتنا المقدسة؟
ندعو هنا إلى التأمل في هذا الطرح من منظور المستقبل وليس الحاضر، ومن واجبنا أن ننقل التفكير السياسي الى الأفق المستقبلي من معطيات الحاضر حتى نتفادها؛ فالوظيفة الوطنية للأقلام العُمانية تدخل ضمن مُحددات المسؤولية المشتركة للخطاب السامي لعاهل البلاد حفظه الله في لقائه مع رئيس مجلس الدولة وبعض أعضائه مؤخرًا، وقد اعتبر جلالته فيه مسؤولية التعامل مع القضايا المطروحة على المستوى الوطني، مسؤولية مشتركة بين مؤسسات الدولة وأجهزتها كافةً، والصحافة والإعلام من ضمنها، وهي التي تقف حارسة للثوابت والمرتكزات الوطنية، وتُحرِّك الأفعال في الأوقات المناسبة لدواعي ديمومتها؛ فطبيعة المرحلة الراهنة إعلامية وصحفية بامتياز، ودور الصحافة والإعلام لم يعد نقل الخبر وحسب؛ بل تكوين الآراء والدفاع عن المُسلَّمات الوطنية، وفي القضية التي نطرحها، ينبغي أن تقول بصوت مرتفع إنَّ محاولة تسريح مجموعة من شبابنا وراؤها برجماتية مالية مؤلمة اجتماعيًا، وإذا لم نُسارع لتقييدها بضوابط كأن تكون الخيار الأخير في حالة وجود مشكلة مالية مثلًا، فإنها ستكتسح الشركات؛ بل ستغطِّي على مشهدنا الوطني، ولا أحد يُنكر أن هذه البرجماتية أصبحت ظاهرةً من أجل المال، على حساب الأبعاد الاجتماعية.
