إعداد: وفاء عبد الله رعفيت
البروفيسورة جانيت واتسون (تميمة): تُعدّ البروفيسورة جانيت واتسون واحدة من أبرز الباحثات في اللغات السامية الجنوبية الحديثة، واسمًا لامعًا في مجال توثيق اللغات المهددة بالاندثار. أمضت سنوات طويلة بين ظفار والمهرة والغيضة، متنقلة بين القرى والبيوت، ليستمع قلبها قبل قلمها إلى لغةٍ حملتها النساء والبيوت والقصص اليومية.
عرفها الكثير كباحثة أكاديمية في جامعة ليدز البريطانية، لكن أهل ظفار والمهرة عرفوها باسمٍ آخر… “تميمة”
لم تكن هذه المقابلة بالنسبة لي مجرد واجب جامعي، بل كانت لقاءً مع واحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا في دراسة اللغة المهرية. أجريت الحوار مع البروفيسورة جانيت واتسون (تميمة)، عبر واتساب وتواصل مباشر عبر زوم وهي أستاذة متخصصة في اللغات العربية الجنوبية الحديثة، والتي أمضت ما يقارب سبعة عشر عامًا في دراسة اللغة المهرية وتوثيقها. وكانت تتحدث معي بالعربية وبالمهرية بطلاقة لافتة، وبابتسامة هادئة تُشعرني أنني أتحدث مع واحدة من الناطقين باللغة المهرية، لا مع بروفيسورة بريطانية تقيم في مدينة ليدز.
من ألمانيا إلى المهرة… قصة بدأت بحزن
كانت علاقة الدكتورة جانيت بالمهرية في بدايتها علاقة بحثية خالصة، قائمة على الاهتمام اللغوي ودراسة الأصوات والخصائص. لم أتوقّع أن تبدأ حديثها بقصة إنسانية قبل أن تكون علمية. كانت نبرة صوتها هادئة لكن مشبعة بالذاكرة.
تروي قائلة: “كنت أدرس في ألمانيا ما بين عامي 2003–2004، وهناك بدأت أول مرة أتعرف فيها على اللغة المهرية عن قرب”. وتضيف”أن زميلًا ألمانيًا كان يعمل حينها على جمع نصوص اللغة. كان قد جمع أكثر من مئتي نص من مناطق مثل جادب وريهن، وكنا نناقش معًا أصوات اللغة وخصائصها، وكنت أدهش كل يوم بعمق علاقتها بالبيئة والثقافة”.
لكنّ مسار تلك البداية لم يستمر كما التوقعات. وبرغم تعاقب الأعوام، ما يزال موقف واحد يؤلمها حتى اليوم، بقولها:
“تعرّض زميلي لحادث سير مأساوي بين حوف والغيضة… وفارق الحياة. كان خبرًا صادمًا، ولم أحزن عليه فقط، بل حزنت على النصوص التي جمعها بعناية كبيرة”.
ونتيجة لذلك، غيّر هذا الحدث مسارها العلمي وتقول:
“تولّد عندي شعور بالمسؤولية… شعرت أن عليّ أن أكمل ما بدأه، وأن أحافظ على إرثه العلمي”.
ومن ذلك الحزن، بدأت بدايتها الحقيقية مع المهرية. فقررت زيارة المهرة، والجلوس مع المتحدثين الأصليين، واستكمال العمل الذي خلّفه زميلها، لتصبح فيما بعد واحدة من أبرز الباحثين في اللغات العربية الجنوبية الحديثة. وكانت تلك اللحظة،”نقطة تحوُّل، لم يكن فيها الدافع بحثًا علميًا فقط… بل وفاءً لروح صديقها واحترامًا لثقافة أحببتها حتى قبل أن أراها”.
صوت اللغة ينبض
عندما تحدثتْ عن أول زيارة لها إلى اليمن، أشارت إلى أن بدايتها كانت محفوفة بالتحديات؛ فقد وجدت نفسها في بيئة جديدة ولغة لم تعهدها، ما جعل الأيام الأولى صعبة في التواصل والتأقلم. ومع ذلك، لقيت ترحيبًا وتعاونًا من الناس، وهو ما ساعدها على فهم المكان وتجاوز شعور الغربة تدريجيًا. لم تكن تسرد ذكريات عابرة، بل لحظة ميلاد جديدة لعلاقتها بالمهرية.
قائلة:
“في عام 2008 سافرت لأول مرة إلى اليمن… جلست فترة قصيرة في صنعاء لأدرس اللهجة الصنعانية، ثم انتقلت إلى المهرة”.
وانتقلت من صنعاء الى المهرة، وهناك في الغيضة، التقت بالشخص الذي أصبح نقطة التحوّل في تعلمها للمهرية: عسكري حجيران. لم يكن مجرد شخص من أهل المكان، بل أستاذًا ومهتمًّا باللغات السامية، وفنانًا مهريًا يغني بلغته الأم، وله دور واضح في حفظ التراث اللغوي للأهالي.
قالت عنه وهي تبتسم:
“كنت قد سمعتُ المهرية من التسجيلات… لكني لم أنطقها بالصورة الصحيحة إلا حين جلست معهم. هم الذين أعطوا اللغة صوتها الحقيقي”.
وتوضح ” أن عسكري حجيران كان أكثر من معلّم، فهو قريب من الأوساط الأكاديمية منذ سنوات سابقة؛ فقد التحق بجامعة هايدلبيرغ الألمانية مطلع الألفية، وسجّل هناك العديد من المواد الصوتية حول الأمثال والمعتقدات والقصص الشعبية المهرية”.
ومع ذلك، ورغم معرفته العلمية، ظلّ في نظرها المعلم الأول الذي منح اللغة روحها.
صوت البيئة وروح الناس
وعن سر انجذابها لهذه اللغة، لم تتحدث بعقل الباحث فقط، بل بقلب عاشق:
“المهرية مرتبطة بالبيئة والثقافة… وهذا شيء نادر”.
كانت تشرح كيف أن الكلمات في المهرية ليست مجرد مفردات، بل شفرات دقيقة للطبيعة والعيش اليومي.
أعطت أمثلة، وكأنها تفتح لي خريطة جديدة للعالم:
“الرياح: أمْديت، نُوهَل..”،
“السُّحب: أزفزيف، عَفور..”،
“المياه: محليق، رُورِم، أُشترير..”
ثم ضحكت وهي تتذكر:
“حتى ابني ضحك أول مرة عندما سمع الأصوات… لأنها مختلفة جدًا، مليئة بالحلق واللسان والهواء… لغة لها حضور قوي”.
وتضيف، بنبرة إعجاب لا تخطئها الأذن، أنها مفتونة بالنظام الصوتي للمهرية، وتنوّعه من منطقة إلى أخرى، وبغنى الثقافة التي تحملها الكلمات.
17عامًا مع لغة واحدة
منذ رحلتها الأولى إلى المهرة عام 2008، والبروفيسورة جانيت (تميمة) تعود إليها عامًا بعد عام. تنقّلت بين ظفار والمهرة، تلاحظ اختلاف النطق، وتجمع المفردات، وتستمع للقصص. شيئًا فشيئًا، تحوّلت من باحثة في اللغة إلى متحدثة بها بطلاقة.
قالت بابتسامة تدل على سنوات طويلة من الشغف:
“ما زلت حتى اليوم أكتب وأبحث… المهرية أصبحت جزءًا من حياتي”.
كانت الجملة أشبه باعتراف عميق؛ فهذه اللغة لم تعد موضوع دراسة، بل رفيقة عمر تمتد لسبعة عشر عامًا.
الصعوبات… وصوت الناس والصبر
وعن أصعب ما واجهته، ضحكت أولًا، ثم قالت بصدق يشبه حديث أهل المكان: “في البداية… لم أستطع نطق بعض الأصوات إطلاقًا”.
كانت الكلمات المهرية، خاصة تلك التي تعتمد على الحلق والهواء، تشكّل تحديًا حقيقيًا لها. ثم أضافت: “وكلام أهل المهرة سريع جدًا… وكل منطقة لها طريقتها الخاصة.” لكن رغم هذه التحديات، كانت التجربة بالنسبة لها أجمل مما توقعت، لأن الناس كما قالت هم من جعلوا الطريق أسهل: “كانوا صبورين جدًا… إذا نطقت كلمة خطأ يعيدونها لي حتى أقولها بشكل صحيح”.
كان واضحًا من صوتها أن هذا الدعم لم يكن مجرد مساعدة لغوية، بل علاقة إنسانية صنعت جزءًا من ذكرياتها مع المهرة ولغتها.
قصص من قلب تميمة
حين بدأت تتحدث عن النساء اللواتي احتضنّها في صلالة، تغيّر صوتها؛ أصبح دافئًا وكأنها تستعيد لحظات عاشت تفاصيلها. قالت بامتنان واضح:
“عندي بيتين في صلالة… يوم عند بيت بر انجيمة، ويوم عند بيت بر مفورج”.
ويُشير ذلك إلى علاقتها القريبة بالأهلي، إذ يُعد بيت بر انجيمة من بيت عامر جيد المعروفين في ظفار ، بينما بيت بر مفورج إلى بيت ثوعار في ربكوت.
لم تكن تتحدث عن ضيافة عابرة، بل عن علاقة تشبه القرابة. النساء هناك عاملنها كإحدى بناتهن، وهي بدورها حفظت هذا الشعور في قلبها.
ثم روت موقفًا حدث في ربكوت بقي في ذاكرتها حتى اليوم. قالت:
“كنت أتغدى معهم، فقالت لي واحدة منهن: أنتِ بروفيسورة وتأكلين مثلنا؟”
ابتسمت وهي تكمل الرواية: “قلت لها: البروفيسورة أنتِ… لولاكِ ما تعلمت شيئًا”.
بين عامي 2010 و 2011، أثناء وجودها في ربكوت، التقت جانيت امرأة كبيرة في السن حاولت نطق اسمها، لكنها لم تتمكن. ابتسمت المرأة ونظرت إليها بمحبة قائلة: ” ما أعرف بجانيت… انتي عندي اسمش تميمة”.
ومنذ ذلك اليوم، صار لجانيت اسم ثانٍ لا يفارقها هناك؛ اسم منحته لها امرأة رأت فيها ابنة لا باحثة. تقول جانيت اليوم: “أصبح اسمي تميمة عند هذه المرأة… أحبها كثيرًا، وهي جزء لا يتجزأ من رحلتي مع المهرية”.
كان واضحًا أن هذه اللحظات هي التي صنعت عندها احترامًا خاصًا للمهرة وأهلها؛ احترامًا لا تصفه الأبحاث، بل الروح وحدها التي تلتقطه.
موسيقى متعددة من لغة واحدة
وعن الحديث عن تنوع اللهجات، كانت تتكلم بإعجاب واضح. وشرحت إن جمال المهرية يكمن أيضًا في اختلافها من منطقة لأخرى. شارحة:
“بعض المناطق تنطق الكلمة مع (أل)، وبعضها بدون… وكلها صحيحة حسب بيئتها”.
وضربت أمثلة كانت تذكرها بحب:
“بيت / أ بيت”.. تعني بيت.
“انصرومة / صرومة”.. تعني الآن .
وأشارت إلى أن جادب تحديدًا منطقة يُمزج فيها بين كلمات من الهوبيوت والمهرية، مما يجعل نطقها مختلفًا عن لهجة صلالة. وتعد اللهجة الهوبيوت إحدى لهجات بعض أهالي جادب وضلكوت وصلالة وهي قريبة في خصائصها من المهرية والشحرية، وتشكل جزءًا مهما من التراث الشفوي للمنطقة.
بالنسبة لها، كان هذا التنوع أشبه كما وصفت بـ موسيقى متعددة من لغة واحدة.
كتب وأبحاث تحفظ ذاكرة لغة كاملة
لم تتوقف جهود الدكتورة جانيت (تميمة) عند حدود التوثيق الميداني، بل امتدّت إلى إنتاج كتبٍ ودراسات تُسهم في حفظ الذاكرة اللغوية للمهرية ونقلها للأجيال الجديدة. وقد تعاونت مع باحثين من أبناء المهرة وظفار لتقديم مواد تعليمية وبحثية تُبرز ثراء اللغة وتفاصيلها الثقافية.
١) كتب سيلم
(“سيلم وأهّله”،”سيلم هوماء”).
تأليف:
عبد الله مسلم المهري وجانيت واتسون
الكتب تحتوي رسومات واضحة حتى يفهم الأطفال والمتعلمون اللغة بسهولة أكبر.
تغمك آفيت – دورة في مهري ظفار (2020)؛ بالتعاون مع: عبد الله المهري، علي المهري، بخيت مسلم المهري، أحمد المهري؛ المعجم الثقافي المقارن للغات العربية الجنوبية الحديثة (2019)؛ منشور عن مطبعة جامعة أكسفورد.؛ بحث: أناشيد الأطفال والطبيعة في المهرية (2024)؛ بالتعاون مع سعيد القميري وأندريا بوم.
دور الإعلام والجامعات
وتوضح أن الحفاظ على اللغات ليس جهدًا فرديًا، بل عمل تشترك فيه مؤسسات المجتمع المختلفة. فالجامعات والكليات تُسهم من خلال برامجها البحثية ومقرراتها المتخصصة في دعم توثيق اللغات ودراسة بنيتها، وفتح مسارات للباحثين للعمل فيها. وفي المقابل، يلعب الإعلام دورًا مكملًا، إذ يستطيع دعم حضور اللغة من خلال القصص والرسوم والفيديوهات القصيرة التي تقرّبها إلى الجمهور، خصوصًا الأطفال، مؤكدة أن:
“اللغة يمكن أن تعيش حين تصل للناس بطرق بسيطة وقريبة من حياتهم اليومية”.
وانسجامًا مع هذا التوجّه، بدأت بالفعل في إعداد مواد تعليمية مخصّصة للصغار لتعزيز ارتباطهم بالمهرية منذ مراحل مبكرة.
المهرية والعالمية
في ظل ازدياد الاهتمام العالمي باللغات المهددة بالاندثار، أصبحت المهرية واحدة من اللغات التي يلتفت إليها الباحثون لما تحمله من تراث غني وشعر شفهي وحكايات لا توجد في غيرها. هذا الاهتمام لا يقتصر على توثيق اللغة فحسب، بل يمتد إلى فهم ثقافتها، وحماية ما بقي منها للأجيال المقبلة، وضمان استمرار حضورها في عالم سريع التغيّر.
قالت بتفكير طويل:” إن العالم يريد أن يعرف القصايد… الأناشيد… القصص التي ستضيع إذا لم نوثّقها”.
وشددت:”أخشى على اللغة من الاندثار إن لم تُعلَّم للأطفال، وتمنت وجود مواد تعليمية رسمية تحفظها للأجيال القادمة”.
اللغة روح الناس وثقافتهم
عند نهاية اللقاء، شعرت أنني لم أجرِ حوارًا مع بروفيسورة بريطانية فحسب، بل مع امرأة من أهل المهرة حملت اللغة في قلبها قبل أن تحملها في قلمها. كنت اتحدث معها بالمهرية، وكانت تضحك وتصحح لي، وكأن الزمن أعادها إلى أول يوم وصلت فيه إلى الغيضة وبدأت تتعلّم اللغة بين أهلها.
هذه المقابلة لم تكن مجرد مشروع دراسي، بل كانت درسًا في: (الوفاء، العلم، الإنسانية، وأهمية حفظ اللغات المهددة)
ولعل أكثر ما تعلمته منها هو جملة قصيرة قالتها أثناء حديثنا:
“اللغة ليست مجرد أصوات… اللغة روح الناس وثقافتهم”.
