البيروقراطية تمحو الإنجازات | جريدة الرؤية العمانية
![](https://sharqakhbar.com/wp-content/uploads/2024/10/xfPCm-780x470.jpeg)
مدرين المكتومية
من المعضلات الإدارية التي تعاني منها الكثير من الدول، مسألة البيروقراطية، والتي تعني بصورة أساسية الإمعان في الإجراءات الإدارية والتشدد فيها، مع الإهمال المُتعمَّد في بعض الأحيان عند إنجاز المهام الإدارية؛ الأمر الذي يتسبب في محو أي إنجازٍ يُمكن أن نُشير إليه بالبنان.
وللأسف نحن في عُمان لسنا استثناءً عن القاعدة؛ فالبيروقراطية التي نشأت في نظم إدارية مختلفة في العديد من الدول، تسللت إلينا كما تتسلل الحية في جحرها، وتوغلت في مفاصل الدولة العميقة، حتى صارت البيروقراطية هي المرادف لعبارة “الإجراءات اللازمة”! وكأن المعاملة لن تُنجز إلّا إذا تعطلت لشهور وربما سنوات. فهل يُعقل أن يُقدِّم المواطن معاملة في إحدى الوزارات ثم ينتظر يومًا وأسبوعًا وشهرًا وسنةً وربما عقدًا من الزمان لكي يصل إلى المحطة الأخيرة، وربما عندما يصل يكون إما قد صرف النظر عن هذه المعاملة أو تكون الصدمة الكبرى برفض المعاملة من الأساس.
خلال دراستي لدرجة الماجستير والآن الدكتوراه، قرأت الكثير من الكتب والمقالات العلمية وأوراق العمل التي تتناول قضية البيروقراطية، وتبين لي بعد البحث والتنقيب أن البيروقراطية ليست سوى منظومة إدارية تهدف إلى تنظيم العمل داخل المؤسسات والهيئات الحكومية والخاصة من خلال قواعد وإجراءات محددة، لكن التطبيق السلبي لهذه المنظومة يجعل من البيروقراطية انعكاسًا لمصطلحات سلبية أخرى، مثل بطء الإجراءات، وغياب عنصر الحسم والحزم في المعاملات، وفي أحيان توفر بيئة خصبة للفساد الإداري. وهذه الانعكاسات السلبية تضر بلا شك بمسيرة التنمية، خاصةً عندما يتحكم أصحاب المناصب في القرارات استنادًا إلى سلطتهم الإدارية دون مرونة أو شفافية.
وللأسف، المسؤولون ومتخذو القرار لا يدركون تمامًا التأثيرات السلبية للبيروقراطية على ديمومة العمل، وخاصة في المؤسسات الحكومية، التي ترعى مصالح الشعب ويفترض بها أن تحرص على تحقيق متطلبات كل مواطن. ومن هذه التأثيرات السلبية، تراجع كفاءة وإنتاجية الموظف، فعندما يعتاد الموظف على تراكم المهام وتأجيل عمل اليوم إلى الغد، يخلد إلى السكون، فتتراجع الإنتاجية، وتتفاقم المشكلات، حتى أنك تجد المتعاملين يقفون بالطوابير على أبواب هذه المؤسسة أم تلك!
وتتسبب البيروقراطية في بطء اتخاذ القرارات، نتيجة للاعتماد على إجراءات معقدة وكثير من الأوراق، الذي قد يؤدي إلى تأخير تنفيذ المشاريع الحيوية، والتي تسهم في تحريك عجلة الاقتصاد. علاوة على التعقيد الإداري، من حيث كثرة القواعد والإجراءات، أضف إلى ذلك الجمود وعدم المرونة في إنجاز المعاملات، ما يعيق أي تقدم ويئد أي ابتكار.
وللبيروقراطية آثار سلبية عنيفة للغاية على مناخ الاستثمار والتنمية الاقتصادية، فالمستثمر الراغب في ضخ أمواله في أي مشروع داخل البلد، لا وقت لديه للتنقل بين الوزارات والهيئات للحصول على تصديق أو موافقة، وسيكون أول قرار يتخذه إذا ما شعر بأن البيروقراطية تهدد استمرارية مشروعه، أن ينسحب، ومن ثم تضيع على البلد استثمارات كانت ستساعد في توظيف الشباب وتنعش الاقتصاد.
وهنا أريد أن أشير كذلك إلى نقطة بالغة الأهمية؛ إذ يحدث في أحيان معينة أن تتجمع سلطة اتخاذ القرارات في أيدي عدد قليل من أصحاب المناصب، مما يتسبب في تحول القرار الإداري إلى أداة لاستغلال السلطة الشخصية بدلًا من خدمة الصالح العام، إلى جانب غياب الشفافية والمساءلة؛ إذ تصبح الآليات الرقابية غير فعّالة، وتصعب محاسبة المسؤولين عن الأخطاء.
ولذلك، لا بديل عن مواصلة التطوير الإداري، وأتمتة العمليات، وسرعة البت في الطلبات، وإنجاز المعاملات بأسرع وقت ممكن، وأن تتبنى كل جهة حكومية مبدأ “النافذة الواحدة” التي من خلالها يستطيع المواطن أن يُنجز كل معاملاته في أسرع وقت ممكن.
وأخيرًا.. إن الإجراءات البيروقراطية وتأخر إنجاز المعاملات تُهدر الكثير من الفرص الواعدة لنمو اقتصادنا، وتُشعر المواطن بالإحباط وعدم الرغبة في العمل، وعلى جميع المؤسسات أن تحرص على تفادي أي إجراءات بيروقراطية، وأن يكون اتخاذ القرار نابعا من الحرص على المصلحة العامة، التي تشمل جميع الأطراف، وكُلي أمل في أن يقرأ جميع المسؤولين هذا المقال، وأن يُسارعوا باتخاذ الإجراءات اللازمة لإنجاز المعاملات، لأنني أعلم علم اليقين أن هناك الآلاف إن لم يكن عشرات الآلاف من القرارات في جميع المؤسسات، حكومية وخاصة، تنتظر توقيع المسؤول فقط لا أكثر من ذلك، بل إن بعضها حصل على التوقيع لكن بانتظار اتخاذ قرار بالتنفيذ والبدء في الإجراء.. ولعل القادم أفضل بإذن الله.