د. علي بن حمدان بن محمد البلوشي **
في إحدى المؤسسات، كُلِّف موظف مجتهد بمهام جديدة بعد أن أعلن قائده أنه قرر “تفويضه” بصلاحيات مهمة. شعر الموظف حينها بالفخر والاعتزاز، فقد كان ذلك بالنسبة له فرصة لإثبات ذاته والتقدم في مساره الوظيفي.
لكن الحماسة لم تدم طويلًا؛ إذ اكتشف لاحقًا أن القائد لم يترك له حرية القرار فعلًا؛ بل وضع عيونًا أخرى تراقبه وتنقل تفاصيل خطواته أولًا بأول عبر الهاتف والرسائل، حتى صار يشعر أن كل ما يقوم به تحت المجهر! عندها أدرك أن ما حصل عليه لم يكن سوى “تفويض صوري”، لا يمنحه الثقة ولا يعكس احترامًا لقدراته. هذه القصة، وإنْ بَدَت فردية، فإنها تتكرر في كثير من المؤسسات، وتطرح سؤالًا مهما: هل التفويض الإداري الذي يمارسه بعض القادة فعلي حقًا أم مجرد واجهة شكلية؟
التفويض في جوهره ليس إجراءً إداريًا بحتًا؛ بل هو ثقافة قيادية تقوم على الثقة وتمكين الآخرين. أهميته تكمُن في كونه يُخفِّف الأعباء عن القائد، ويفتح المجال أمام الموظفين لإبراز مهاراتهم وتحمل المسؤولية؛ مما يصنع قادة جُددًا ويضمن استدامة المؤسسة. وحين يتم التفويض بطريقة صحيحة، ينعكس إيجابًا على جميع الأطراف: المؤسسة تُنجز مهامها بكفاءة، والقائد يجد وقتًا للتفكير الاستراتيجي، والموظف يشعر بقيمته وينمو في مساره الوظيفي.
لكنَّ الواقع يكشف عن صورة أخرى أحيانًا؛ إذ يتحول التفويض إلى أداة شكلية لا روح فيها. يحدث ذلك حين يُفوِّض القائد موظفيه، لكنه في الوقت نفسه يُعيِّن مراقبين يتابعونهم بدقة وينقلون تفاصيل كل صغيرة وكبيرة، حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي. هنا يفقد التفويض معناه، ويتحول إلى رسالة سلبية مفادها: “أثق بك أمام الجميع، لكنني لا أصدقك في الحقيقة”. مثل هذا السلوك لا يُضعف ثقة الموظف بنفسه فحسب؛ بل يزرع الشك ويقتل روح المبادرة، ويمنع ظهور قيادات جديدة قادرة على حمل المسؤولية.
المفارقة أن القائد في هذه الحالة يبدو وكأنه يُمارس التفويض، بينما في العُمق هو يلغي جوهره عبر المراقبة المُفرطة. النتيجة المباشرة لذلك هي انعدام الثقة، وبيئة عمل مُثقلة بالرتابة، وضعف في الابتكار. ومن هنا تبرُز الحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم التفويض وممارسته بشكل فعلي يحقق الهدف منه.
الإدارة الحديثة قدمت حلولًا عملية لهذه الإشكالية، من بينها التفويض المبني على النتائج؛ حيث يُحدِّد القائدُ الهدفَ المطلوب ويترك لفريقه حرية اختيار الوسائل. وهناك التفويض التدريجي، الذي يبدأ بمنح صلاحيات صغيرة ثم يزيدها تدريجيًا مع إثبات الكفاءة. كما إن الاعتماد على مؤشرات أداء واضحة وموضوعية يُغني عن المراقبة الفردية المُتربِّصة، في حين يظل دور القائد هو التوجيه والإرشاد لا التدخل في التفاصيل. والأهم أن الثقة يجب أن تكون الأساس، لأن الموظف الذي يشعر أن قائده يؤمن به سيبذل أقصى ما لديه لإنجاح المهمة.
وتؤكد التجارب الواقعية أن المؤسسات التي تمنح موظفيها مساحة من الثقة تحقق نجاحات لافتة؛ ففي شركات عالمية، تُمنح إدارات الأقسام صلاحيات واسعة لإدارة الخطط التشغيلية، مع الاكتفاء بمتابعة النتائج النهائية. وفي مؤسسات محلية، أُتيحت لفرق العمل حرية تنفيذ مشاريعها، حقَّقت إنجازات نوعية، والسِرُّ في ذلك أنها عملت ضمن بيئة مليئة بالثقة والدعم، لا بالرقابة والشك.
الخلاصة أن التفويض الإداري ليس ورقة يعلنها القائد أمام موظفيه؛ بل مُمارسة عملية تقوم على التمكين والثقة. التفويض الصوري لا يصنع قادة؛ بل يُضعف المؤسسة ويجعلها أسيرة شخص واحد، أما التفويض الفعلي فيبني الأجيال القادمة من القيادات ويضمن الاستدامة. لذلك فإن النصيحة الأهم لكل قائد هي أن يُمارس التفويض كفِعل ثقة، لا كوسيلة مراقبة؛ فالقائد الحقيقي ليس من يُنجز كل شيء بنفسه؛ بل من يترك أثرًا في موظفيه ويصنع منهم قادة قادرين على حمل الراية من بعده.
** أستاذ مساعد بالكلية الحديثة للتجارة والعلوم