محمد بن سالم البطاشي

لطالما كانت عُمان، عبر عصور التاريخ، نقطة التقاء البحار والتجارة والحضارات، ومفترق طرق بين الشرق والغرب، بما منحها الله من مكانة استراتيجية فريدة في قلب الجغرافيا الدولية. فمنذ عهد المجد البحري، حين جابت أساطيلها مياه المحيط الهندي والخليج العربي والبحر الأحمر، وحتى وقتنا الراهن، ظلّت السلطنة تمسك بمقاليد التأثير بهدوئها الدبلوماسي، وعمقها الحضاري، وحكمتها السياسية.

فمنذ القدم عُرفت عُمان باستقرارها السياسي والاجتماعي، مما وفَّر لها بيئة آمنة وجاذبة للاستثمارات، وتعمل الدولة على تعزيز هذا الاستقرار من خلال سياسات تنموية شاملة تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة وتوفير فرص العمل، وفي زمنٍ تمور فيه المنطقة بالتقلبات والصراعات، تبرز عُمان كواحة استقرار وميزان اتزان، تمارس دور الوسيط النزيه، وترسم سياساتها على أسس السيادة والاحترام المتبادل، ما أكسبها احترامًا دوليًا ومكانة لا تضاهى. وهذه الجغرافيا المدهشة التي تمتد من قمم الجبال والروابي إلى أعماق البحار، لم تكن يومًا مجرد تضاريس، بل كانت امتدادًا لدورٍ تاريخيٍّ راسخ، تتقاطع فيه الجغرافيا مع الجيوسياسة، والماضي مع الحاضر، والحضارة مع التجارة، ليولد ذلك اقتصادًا قويًا راسخًا قائمًا على التنوع، يلعب فيه التبادل التجاري شرقًا وغربًا دورًا محوريًا في تصدير قيم الحكمة والتنوّر والتسامح والأخلاق العالية التي تميز بها الإنسان العُماني طيلة مسيرته التاريخية الظافرة.

وتعد سلطنة عُمان نموذجًا مشرقًا في المنطقة، حيث تسعى إلى تنويع اقتصادها بعيدًا عن الاعتماد التقليدي على النفط والغاز؛ إذ تمتلك بلادنا مجموعة من المقومات الطبيعية والجغرافية التي تؤهلها لتحقيق نمو اقتصادي مستدام. وفي هذا المقال سنطوف معًا ببعض المقومات التي يمكنها أن تنهض باقتصاد قوي ومستدام يقرب البلاد من الهدف الأكبر المتمثل في بناء اقتصاد قوي مستدام لفترة ما بعد النفط والغاز، وحيث إنَّ شؤون وشجون الاقتصاد متنوعة ومتجددة فإنَّ هذا المقال سيتناول بعضًا من هذه المقومات.

ويأتي موقع عُمان الإستراتيجي على البحار والمحيطات المفتوحة، والذي يربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، كنقطة ارتكاز أولى، مما يُؤهلها لتكون مركزًا لوجستيًا مهمًا؛ حيث تضم موانئ رئيسية مثل ميناء صلالة، وميناء صحار، وميناء الدقم، والتي تسهم في تعزيز التجارة البينية بين عُمان وباقي دول العالم، وكذلك تجارة الترانزيت الدولية وتوفير فرص استثمارية متعددة، والسعي لجعل عُمان مركزًا عالميًا في مجال خدمة وصيانة السفن من خلال الحوض الجاف في الدقم.

وتعد الصناعة شريانًا مهمًا للاقتصاد؛ حيث تشير البيانات إلى أن إجمالي الإنتاج الصناعي لسلطنة عُمان بلغ 4.04 مليار ريال بنهاية الربع الأول من عام 2024، محققًا ما نسبته 19.5% من الناتج المحلي، ومثّل قطاع الصناعات التحويلية الجزء الأعلى من هذا الرقم محققًا 2.19 مليار ريال بالأسعار الجارية.

كما تزخر عُمان بموارد معدنية متنوعة تشمل: النحاس، الكروم، الرخام، الجبس، الحجر الجيري، المنغنيز، الدولوميت، السيليكا، والأملاح وغيرها من الخامات التي تدخل في قلب الصناعات المختلفة؛ حيث بلغ مجموع إنتاج المعادن 63.7 مليون طن متري عام 2024م. كما تسعى الدولة إلى تطوير قطاع التعدين عن طريق جذب الاستثمارات العالمية وتحديث البنية التحتية، وسنّ القوانين المشجعة على قيام صناعات تعدينية قائمة على الخامات المحلية، من خلال ترشيد التصدير لمجموعة من الخامات المعدنية وتوجيهها نحو الصناعات التعدينية وتوطين المعارف المختلفة في هذا المجال؛ مما يسهم في تنويع مصادر الدخل وبناء اقتصاد قوي يعتمد على ما تنتجه هذه الأرض المباركة. وبالنظر إلى الاحتياطي المعروف من الصخور الصناعية التي تشكل سلاسل إمداد مهمة لصناعات متعددة، نستطيع القول وبكل ثقة إن قطاع التعدين والصناعات القائمة عليه يستطيع أن يسهم بنسبة معتبرة في التنويع الاقتصادي للبلاد وتوظيف القوى العُمانية الباحثة عن عمل بمختلف شرائحها التعليمية والفنية إذا ما أُفسح المجال كاملًا له ليلعب هذا الدور.

كما إن السواحل العُمانية تمتد لأكثر من 3000 كيلومتر، مما يوفر بيئة غنية بالثروة السمكية. ويُعد قطاع الصيد البحري مصدرًا مهمًا للدخل والتوظيف، وإن السعي الحثيث نحو تطوير هذا القطاع من خلال مشاريع الاستزراع السمكي، وتحسين البنية التحتية للموانئ، وإنشاء الصناعات السمكية، كفيل بتوفير الكثير من فرص العمل للشباب العُماني.

ورغم الطبيعة الصحراوية لعُمان، إلّا أن هناك مناطق تتميز بتربة خصبة ووفرة نسبية من المياه مثل محافظات ظفار، الباطنة، والداخلية. وتسهم سدود الحماية والتخزين بجانب الأفلاج والآبار في توفير المياه اللازمة لهذا النشاط. وتُعتبر الثروة الحيوانية جزءًا مهمًا من الاقتصاد الريفي، وتبذل حاليًا جهود في مجالات تربية الماشية والدواجن وإنتاج الحليب ومشتقاته وإنتاج اللحوم بأنواعها.

وعلى الصعيد السياحي، فإن عُمان تتمتع بتنوع جغرافي ومناخي يشمل الجبال، والهضاب، والسهول، والصحارى، والشواطئ، تضم في ثناياها معالم تاريخية وطبيعية متفردة؛ مما يجعلها وجهة سياحية مميزة؛ حيث كل ولاية لها طابعها الخاص وتتميز بمقومات ومعالم سياحية تختلف عن باقي الولايات؛ مما يساعد على تقديم منتج سياحي متنوع وحافل بالفخامة والثراء للسياحة المحلية والوافدة. وبالتركيز على تطوير السياحة الطبيعية والبيئية والجيولوجية والثقافية، مع الحفاظ على التراث العُماني الأصيل، يمكن للسياحة أن تلعب دورًا فاعلًا في التنوع الاقتصادي واستيعاب القوى العاملة.

وتُعوِّل عُمان كثيرًا على الطاقة المُتجدِّدة لتنويع مصادر الطاقة لديها، وتخطط لرفع نسبة الطاقة المتجددة في مزيج الكهرباء إلى 30% بحلول عام 2030، كما تخطط للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2050. ومن خلال خطة طموحة للاستثمار في مشاريع الهيدروجين بأنواعه؛ حيث تعد عُمان بلدًا رائدًا عالميًا في هذا المجال مستفيدة من موقعها الإستراتيجي؛ حيث تنفذ حاليًا حزمة من المشاريع الخاصة بإنتاج الهيدروجين الأخضر والبنية التحتية المرتبطة به في كل من الدقم وصلالة من خلال شراكات استراتيجية مع شركات دولية، ويتم تنفيذ العديد من مشاريع الهيدروجين والأمونيا من الوزن الثقيل، يبلغ عددها أكثر من 6 مشاريع، تستخدم الطاقة المتجددة.

وهناك اتفاقية لتأسيس أول ممر تجاري عالمي لتصدير الهيدروجين الأخضر المسال من ميناء الدقم إلى ميناء أمستردام ثم إلى مراكز صناعية في أوروبا؛ الأمر الذي يعزز مكانة عُمان كمركز عالمي للطاقة النظيفة، وللشمس في عُمان ألف قصة وقصة؛ فهي مصدر للدفء والنور، ومعين لا يكاد ينقطع من الطاقة المتوهجة النظيفة.

وطاقة الرياح وجه آخر للطاقة النظيفة، حيث تهب الرياح على عُمان معظم أيام السنة خصوصًا في الصحراء المترامية والشواطئ المفتوحة على بحر العرب. وتُعد محطة ظفار لطاقة الرياح، ومحطة جعلان بني بو علي لطاقة الرياح، ومشروع الدقم لطاقة الرياح، ومحطة عبري للطاقة الشمسية، ومحطتي “منح 1″ و”منح 2” للطاقة الشمسية، ومحطة صور لتحلية المياه بالطاقة الشمسية، ومحطة أمين للطاقة الشمسية من أبرز المشاريع في هذا المجال، والتي ستسهم في خفض ما مجموعه 225 ألف طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون سنويًا، إضافة إلى الدور التاريخي لصخور عُمان من نوع البريدوتيت في امتصاص غاز ثاني أكسيد الكربون؛ مما يسهم في تحقيق التنمية المستدامة. ومن المؤمَّل أن تستوعب هذه المشاريع ألوفًا من الشباب الباحث عن عمل في فترتي الإنشاء والتشغيل، فضلًا عن دورها المهم المتمثل في توطين المعارف والخبرات الخاصة بهذا القطاع الحيوي.

إنه بفضل الله تعالى، ثم بفضل بركة دعوات الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذه البلاد الطيبة، وبفضل هذه المقومات، تمضي عُمان بثبات نحو تحقيق “رؤية 2040″، التي تهدف إلى بناء اقتصاد متنوع ومستدام، يعزز من مكانة السلطنة على الساحة الإقليمية والدولية.

شاركها.