اخبار عمان

الحرب والاتجاه شرقًا | جريدة الرؤية العمانية

حاتم الطائي

التصعيد بات سِمة سائدة في عالم اليوم مع غياب الحكمة والاتزان

الدبلوماسية العُمانية تُسطِّر نجاحات غير مسبوقة بفضل حيادها وحكمتها

الثقل الحضاري العالمي يتَّجه شرقًا نحو الشواطئ الدافئة المُستقرة

 

 

يشوب المشهد العالمي والإقليمي اضطرابات عنيفة على المستويات كافةً، فالتُغيُّرات السياسية والاقتصادية تعصف بجميع الدول، وبينما تسعى الدول الوازِنة في المنطقة والعالم من أجل إطفاء الحرائق هنا وهناك، يبدو أنَّ أطرافًا بعينها تنفخ في النار، وتأمل النفخ في رماد الحروب وفتح أبواب جنهم في العديد من البقع الساخنة حول العالم.

ولا يُمكن قراءة هذا المشهد دون استيعاب منطق “اللُعبة”؛ فالأطراف الفاعلة على الساحة الدولية، تُشهر أوراق اللعبة بين الحين والآخر، فيما تمارس في أوقات أخرى لعبة “عض الأصابع”، لكن أخطر هذه الألعاب إذا جاز التعبير لعبة حافة الهاوية، والتي يُتقنها الطرف الأمريكي جيدًا، ويُمارسها بكل قوة، وشاهدنا ذلك في الكثير من الملفات والقضايا الدولية والإقليمية. غير أنَّ ما يُثير المخاوف الشديدة تجاه تطورات الأوضاع، أن تخرج “اللعبة” عن حدود السيطرة، أو أن يتمادى أي طرف في ممارسة أقصى الضغوط فيحدث الانفجار الذي لا يُريده أحد.

ولم يعد غائبًا عن أذهان المتابعين والمراقبين ولا حتى المواطن العادي، أنَّ التصعيد والتصعيد المضاد وردود الفعل إقليميًا ودوليًا، بات سمةً سائدةً في عالم اليوم، وقد غابت في الوقت نفسه الشخصيات الدولية المُؤثرة التي كان باستطاعتها “ضبط إيقاع العالم” قبل لحظة الضغط على الزناد، فليس في عالم السياسة الدولية اليوم جمال عبدالناصر ولا هنري كيسنجر ولا ماو تسي تونغ، ولا أنجيلا ميركل ولا جيمي كارتر، ولا أيٍّ من الزعماء الذين كان خطاب واحد لهم يقلب الموازين، ويُعيد ضبط البوصلة العالمية.

ولذلك وقف العالم عاجزًا ومُتخاذلًا أمام حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة، ومساعي التهجير القسري التي لا تتوقف، في ظل إدارة أمريكية سابقة أذعنت تمامًا لدموية بنيامين نتنياهو مُجرم الحرب المطلوب دوليًا أمام القضاء، وشاركت بالمال والسلاح والاستخبارات في كل المذابح البشعة في غزة، ولم يختلف الحال مع الأسف في عهد الرئيس دونالد ترامب، الذي اكتفى فقط بإلزام إسرائيل بتنفيذ هدنة مُؤقتة، لم تستمر أكثر من شهر تقريبًا، ليعود بعدها نتنياهو ويفتح نيران الجحيم على القطاع وأهله العُزل. كما يُواصل حتى اللحظة، اختلاق الذرائع لعدم الاستمرار في أية مفاوضات تُفضي لإنهاء هذا الوضع الكارثي، خاصة وأنَّه مُطمئن تمام الاطمئنان أنَّ استمرار الحرب يعني استمراره في الحكم، ومن ثم الإفلات من المحاكمة الداخلية التي تنتظره بتهم الفساد وغيرها، فضلًا عن محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، وكذلك محكمة العدل الدولية.

علاوة على ذلك، لا ينفك نتنياهو عن الضغط على الإدارة الأمريكية من أجل تنفيذ ضربات عسكرية على إيران، بزعم القضاء على برنامجها النووي، ورغم أنَّ هذه الإدارة حشدت الحشود العسكرية في أعالي البحار الإقليمية، واستنفرت عسكريًا، إلّا أنها لم تنفذ طلبات مجرم الحرب نتنياهو، وقد كشفت الصحف الأمريكية العليمة ببواطن الأمور أنَّ الرئيس ترامب رفض طلب نتنياهو بشن حرب على إيران، وهذا يعكس تطورًا مهمًا في فكر وطريقة تعاطي ترامب مع الأوضاع في الشرق الأوسط؛ حيث إنه بات يدرك مدى الرفض الإقليمي خليجيًا وعربيًا والدولي لفكرة مهاجمة دولة بحجم إيران.

في مُقابل ذلك، تناضل الدول المُحبة للسلام والاستقرار للقيام بأدوارها الحضارية، والتوسط بين الفرقاء من أجل نزع فتيل الأزمات، وصرف شبح الحرب الذي يُطل برأسه على المنطقة بين الحين والآخر. وقد تجلت هذه الأدوار في المهمة التاريخية التي تؤديها الدبلوماسية العُمانية على أكمل وجه في المباحثات بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية بخصوص برنامج طهران النووي؛ ما يعكس مدى الاهتمام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه بهذه القضية، فيما يقود عملية الوساطة التفاوضية بين الجانبين، معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية، الذي لم يتوان للحظة في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، والعمل على تجسير الفجوات في المواقف والرؤى، وهو نهج حكيم يعكس الالتزام بالثوابت الوطنية في السياسة الخارجية العُمانية، التي ترتكز في جوهرها على دعم السلام ونشر الاستقرار في العالم.

لذلك، لم يعد خافيًا على القاصي والداني ما أحرزته الدبلوماسية العمانية من نجاحات لم يستطع أحد بلوغها من قبل، ولقد وصف معالي السيد وزير الخارجية بكلمات دقيقة مُعبرة لأبعد الحدود هذا الدور العُماني الناجح والفاعل بقوة، عندما قال: “ما كان غير مُرجح أصبح مُمكنًا الآن”، وهذه بلاغة عميقة تبرهن أن المفاوضات النووية قد انتقلت إلى مرحلة متقدمة تُبشِّر بقرب “التوصل إلى اتفاق منصفٍ دائمٍ ومُلزِم يضمن خلوَّ إيران بالكامل من الأسلحة النووية ورفع العقوبات بالكامل عنها، مع الحفاظ على حقِّها في تطوير الطاقة النووية للأغراض السِّلمية”، وهو ما أشار إليه متحدث باسم الخارجية العُمانية، في تصريحات تناقلتها جميع وسائل الإعلام حول العالم.

اليوم.. عُمان يُشار إليها بالبنان ليس لأنها “سويسرا الشرق الأوسط” كما يصفها كثير من المراقبين؛ بل لأنها رسخَّت لنموذج حضاري فريد من نوعه، يؤمن بالسلام، ويعمل على إقناع الآخرين بهذا السلام، فتتحقق النتائج التي استبعدها الجميع، وتتلاشى المخاوف التي ساورت دوائر صنع القرار العالمي، وتُشرَّع أبواب الأمل، لتهُب نسائم السلام، وتُعزَف ألحان الاستقرار، ويعيش العالم في وئام وانسجام.

ولذلك، فإنَّ الثقل الحضاري العالمي يتجه شرقًا نحو الشواطئ الدافئة بعيدًا عن الأمواج الأطلسية العاتية، وليس من المبالغة القول إن هذا الثقل ينطلق من أرض عُمان، بدبلوماسيتها الصادقة الرصينة والأمينة، وسياستها الخارجية المُتوازِنة والمُحايِدة، والتي حازت ثقة العالم أجمع. اليوم نرى هذا الثقل الحضاري يودِّع الغرب اليميني المُتطرِّف المُتعطِّش للحروب والصراعات، بعد عقود طويلة من الهيمنة والاستعمار والحروب المُدمِّرة والعنصرية الكريهة، ولا أدل على ذلك من تحوُّل دفة الاستثمارات لا سيما في الطاقة النظيفة والتكنولوجيا الحديثة إلى عواصم الشرق، إلى مسقط والرياض ودبي والقاهرة، وإلى الشرق الأقصى في بكين وطوكيو وسيول وكوالالمبور؛ حيث المصالح المُشتركة القائمة على قيم التعايش والتفاهم والوئام، بعيدًا عن الاستغلال الغربي وعن الحروب التي تُذكيها تحركات البوارج الحربية والأساطيل العسكرية العتيدة.

ويبقى القول.. إنَّ مُجريات الأحداث من حولنا والتطورات التي تعصف بالدول والأنظمة والتغيُّرات الجيواستراتيجية في كل مكان، تفرض علينا أن نقرأ التاريخ جيدًا لكي نرى الحاضر بوضوح ونستشرف المُستقبل انطلاقًا من أرضية صلبة، والأهم من ذلك أن نُمسك بدفة سفينة الازدهار كي نُوجهها مع اتجاه رياح المُستقبل المُشرق لشعوب العالم الحُر المؤمن بالمساواة والعدالة والإخاء، لا العالم الهمجي المُجرم الذي يُريد إبادة الشعوب لتحقيق مصالح عقارية أو استثمارية أو للنجاة من العقاب الأليم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *