صبحي حسن
هذه المقالة محاولة للتفكير بصوت عال وإثارة العقول حول التعليم الجامعي ومخرجاته، أو كما يسمى بالتعليم العالي وهو برأي ليس كذلك، لأنه لا يمكننا الوصول إلى علو في التعليم مهما بذلنا من مجهود، فلا سقف للعلم، يقول الله تعالى “وَمَا أوتِيتم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا” (الإسراء: 85)، ويقول سبحانه وتعالى في سورة لقمان الآية 27 “وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْر يَمدّه مِن بَعْدِهِ سَبْعَة أَبْحرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَات اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ“.
كلمة الجامعة أصلها لاتيني تعنى “مجتمع المعلمين والعلماء” استخدمت للمرة الأولى في مؤسسة تعليمية في بولونيا الإيطالية عام 1088م، وهي من أوائل الجامعات في أوروبا.
إذا تتبعنا مسار التعليم منذ بداياته، نلاحظ وبشكل جلي، أن الدين هو منشأ التعليم؛ ففي أوربا خلال العصور الوسطى، كانت أديرة الكنيسة الكاثوليكية مراكز للتعليم ومحو الأمية، اتخذت من اللاتينية لغة وكتابة وتدريسا، لغرض الحفاظ على المعرفة الدينية واللاهوت وتطويرهما، بالإضافة إلى محاولة الجمع بين العلوم الإلهية والإنسانية لخدمة الكنيسة والدين، ولا يخفي مدى تأثرها الواضح بالنماذج التعلمية الاسلامية التي سبقتها في هذا المجال.
فجامعة باريس مثلا، ثالث أقدم جامعة أوروبية تأسست عام 1160م، كانت مبنية على أساس التعليم المسيحي. وفي شمال أوروبا كانت الأمور على نفس المنوال، حتى عصر الإصلاح الديني. أما في بروسيا الذي وضع أسسها فريدرك العظيم عام 1763، فقد كان التعليم فيها منظما وإلزاميا يهدف إلى غرس الانضباط والوطنية، تدرس فيه القراءة والكتابة والدين بالإضافة إلى الموسيقى، ثم تطورت عندما دعمتها الدولة، حتى أصبح تأثيرها كبيرا على أنظمة التعليم الحديثة حول العالم، لتركيزها على التعليم العام والتدريب المهني.
في العالم الإسلامي، الذى سبق الغرب في التعليم بقرون عديدة، ارتكز التعليم أيضا على المبادئ الدينية، كانت بداياته من المسجد الذي اقتصر التعليم فيه على القرآن وحفظه. ثم ظهرت حلقات التعليم والكتاتيب وأضيف إليها تعليم القراءة والكتابة. وابتداء من القرنين الرابع والخامس الهجريين، أنشأت المدراس كمؤسسات منظمة، مثل المدرسة النظامية التي أنشاها نظام الملك عام 1066م، والمستنصرية في بغداد عام 1322م، وبعدها ظهرت الجامعات.
تعتبر جامعة القرويين في المغرب من أوائل الجامعات العربية أسستها فاطمة الفهرية عام 859م الملقبة بـ”أم البنين”، بدأت كمسجد ومركز للتعليم الديني، ثم تطورت لتصبح مؤسسة أكاديمية. وبحسب اليونيسكو ومؤسسة جينيس للأرقام القياسية، تعتبر جامعة القرويين من أقدم الجامعات في العالم، بدأ التعليم فيها منذ أكثر من 12 قرنا ومازالت، تليها جامعة الزيتونة في تونس، والأزهر في مصر.
التعليم سابقا كان حرا، لا يخضع لقيود صارمة ومعقدة، ولم تكن هناك مناهج بالمفهوم الحالي، كل ذلك جعل الطالب يبحث بنفسه عن العلم ويتحمل المشاق وهو متعطش اليه، يذهب اليه ولا يأتي إليك. إلا أنه بعد أن بدأت المدارس والجامعات تأخذ طابعا مؤسسيا، وبدأت المناهج تتبلور، وتم تقسيم التعليم الى مراحل حسب عمر الطالب ودرجة تقدمه، أصبح التعليم يأتي إليك ولا تذهب إليه، وأنت في نفور منه.
عندما تم إنشاء المدارس والجامعات المستحدثة، بدأت في الواقع سمة أخرى من سمات التعليم، وهي السيطرة والاستئثار واحتكار العملية التعليمية برمتها. فهناك مساقات وبرامج يجب عليك اجتيازها، ولم يعد التعليم حرا بلا قيود ولا شروط، بل ملزما بتتبع مناهج وبرامج، ليعطيك الإعتراف والشهادة، وإذا ما اعتمدت على نفسك في الدراسة خارج إطار المؤسسات، فلا شهادة ولا اعتراف.
من ضمن أهداف الجامعة ومخرجاتها التي وضعت من أجلها، تقديم العلم ونشر المعرفة، وتعليم المهارات والقيم، والقدرة على العمل الجماعي، والتواصل الفعال، وتحليل المعطيات، وذلك لتلبية متطلبات سوق العمل المتغيرة، ورفع الكفاءة البشرية لدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
المفكر العربي والإسلامي أحمد امين في كتابه “فجر الإسلام” له رأي يماثله، وإن كان أكثر تشددًا؛ حيث قال: “تعلمت من هذا الوسط ان ميزة الجامعة عن المدرسة هي البحث، فالمدرسة تعلم ما في الكتب، والجامعة تقرأ الكتب لتستخرج منها جديدا، والمدرسة تعلم آخر ما وصل اليه العلم، والجامعة تحاول أن تكشف المجهول من العلم، فهي تنقد ما وصل إليه العلم وتعدله، وتحل جديدا محل قديم، وتهدم رأيا وتبني مكانه رأيا آخر وهكذا، هذه وظيفتها الأخيرة، فإن لم تقمها كانت مدرسة وليست جامعة”.
وإذا نظرنا إلى واقع التعليم الحالي وما يدرسه الطالب من تخصصات، فإنها لا تلبي حاجات المجتمع والسوق، ولا تعطي للخريج جرعة توقظ فيه الشغف وحب التعلم. وفعليا لا يمارس الخريج ما درسه في مجال عمله، هذا إذا استثنينا التخصصات المهنية، فالطالب اليوم عينه على الشهادة والأخرى على الوظيفة وهذا من حقه، ولكننا قتلنا فيه الطموح التعليمي بربط الشهادة بالوظيفة والامتياز والترقية وليس للعلم، بل أوجدنا شعورا داخليا لديه بانه أنهى مراحل التعليم إلى غير رجعة، لينتظر بعدها أن تأتي إليه الوظيفة أو أن يسعى إليها. من منا حاول في يوم من الأيام أن يتصفح الكتب التي درسها سابقا، لينعش ذاكرته أو أن يستخلص منها معلومة بحاجة إليها لغرض ما؟ هذا إن احتفظ بكتبه أصلا ولم يرمها.
نحن في الواقع، أصبحنا نراكم أعداد الخريجين ولا نستفيد منهم، لدينا مخزون من تلك الطاقات لكنها مجمدة، ففي إحدى الإحصائيات بلغ عدد الخرجين للعام الأكاديمي 2022/2023 أكثر من 30,000 خريج، وعدد الباحثين عن العمل لعام 2024م تجاوز 90,000 باحث، معظم هؤلاء لا يستفاد من امكانيتاهم الوثّابة والطموحة. ترى كم سيكون عددهم بعد سنتين فقط؟ وإذا مكث هؤلاء من غير وظائف ولا استثمار في طاقاتهم، فهذا يعني نفاذ صلاحية تعليمهم مع السابقين لهم، فيصبحوا خريجين مهمشين أو خريج مقنع.
إن تكلفة الخريج ليست بالقليلة، سواء من يدرس منهم على نفقة الحكومة أم على حسابه الخاص، هذا عدا عن التكلفة المعنوية والنفسية، ونتساءل هل نحن والحال هذه بحاجة إلى المزيد منهم كل عام؟ ثم لماذا نحشر الطالب بكثرة المواد لا يستطيع بطل الأثقال حملها، وما الهدف والجدوى من ذلك؟ الطفل اليوم يتعاطى مع التكنولوجيا منذ نعومة اظافره، فهل يعقل أن تستمر عملية التعليم كما هي دون تطوير؟ فالحشو سيد التعليم والتلقين توأمه. نحن بحاجة إلى مراجعة وغربلة التعليم من اساسه، وليس الى عمليات تجميل أوقص ولصق لنقول تم التحديث.
اليوم ليس هناك شح في المعرفة والمعلومات أو الكتب كما كان سابقا، فهي طافحة بكميات مهولة، بحيث تنطبق علينا مقولة كلما زاد العرض قل الطلب، المهم كيفية توظيف المعلومة بأفضل طريقة والاستفادة منها عمليا، لذا نحن بحاجة إلى:
- مؤسسات تعليمية ترشدنا إلى أدوات ضبط وتصحيح عملية التعليم أكثر من التلقين، الاعتماد على مهارات الطالب أكثر من المدرس، استخراج المعلومة وليس إعطائها جاهزة.
- إعادة هيكلة التعليم برمته من الابتدائي إلى الجامعي، نحن لسنا ملزمين بتتبع مناهج الغرب بعد أن كنا سادته، فالزمن في تغير كبير وسريع لا يرحم. علينا مراجعة الفترات الزمنية المعتمدة واختصارها ما امكن والتركيز أكثر على المهارات، والتقنيات الحديثة ومعرفة بيئتنا بشكل أكبر، وبناء الإنسان الواعي الذى يمكنه الاعتماد على نفسه في كل مرحلة من مراحل التعليم
- أن نبني ونبتكر ونضع المناهج بأنفسنا وبعقولنا وبيئتنا الذاتية، لدينا ولله الحمد من العقول والكفاءات للقيام بذلك، لا نريد مناهج معلبة جاهزة نستوردها ومن مصدر واحد، هذا لا يعني التقوقع على الذات، بل الاستفادة من تجارب الآخرين، وتطويعها لتناسب بيئتنا وأساليبنا التعلمية.
- حبذا لو تم إدخال الخريج بين فترة واخرى إلى إنعاش تلخيصي مكثف لما درسه، وتحديث ما فاته، لنضعه على سكة التعليم دائمًا وابدًا؛ فالشهادة لا تحمل تاريخ صلاحية محدد، إلا أنها في الوقت ذاته لا تعد صكًا لتملُّك العلم، فلا أحد يملك ما درسه مدى الحياة ويتذكره.
وإذا ما أردنا أن نطرح سؤالًا فيه شيء من المواربة ثم الإجابة عليه: ترى ما أولويتك في الدراسة؟ الشهادة أم التعليم؟!
