أحمد بن سالم آل إبراهيم

في الرابع عشر والخامس عشر من سبتمبر 2025، شهدت الدوحة حدثًا فارقًا في تاريخ منظومة مجلس التعاون الخليجي: قمة طارئة استجابت للضربات الإسرائيلية الغادرة على الأشقاء في دولة قطر، وأثبتت أنَّ السياسة لا تُقاس بالضجيج الإعلامي، بل بالقدرة على اتخاذ موقف صائب في لحظة حاسمة. لم يكن الاجتماع مجرد بروتوكول؛ بل كان تصعيدًا دبلوماسيًا واضحًا ورسالة سياسية موحدة للعالم: الاعتداء على قطر هو اعتداء على كل الخليج، وعلى الأمة العربية والإسلامية جمعاء.

لقد حاول البعض التقليل من قيمة القمة، مُعتبرين أنَّها لم تُصدر قرارات عملية فورية. لكن التحليل الواقعي يشير إلى أنَّ مجرد انعقاد القمة في الدوحة نفسها كان بمثابة خط أحمر سياسي، يؤكد أن الاستفراد بأية دولة خليجية لم يعد مقبولاً، وأن الخلافات الجانبية تتراجع أمام المخاطر المشتركة. حضور القادة في هذا التوقيت الحساس أرسل إشارات واضحة: الوحدة الاستراتيجية أهم من أي خلافات عابرة، وأن الخليج قادر على تنسيق المواقف حين تستدعي الضرورة.

من الناحية الدبلوماسية، أعادت القمة القضية الفلسطينية إلى قلب الطاولة العالمية، ليس بوصفها صراعًا بعيدًا، بل باعتبارها عنصرًا من الأمن الإقليمي المباشر. عندما استهدفت الضربات الإسرائيلية الدوحة، لم يعد النزاع محصورًا بين غزة وتل أبيب؛ بل أصبح شأناً دوليًا، خاصة أن قطر تستضيف أكبر قاعدة أمريكية في المنطقة. هنا، لعبت القمة دورًا محوريًا في تذكير المجتمع الدولي بأنَّ أمن الخليج جزء لا يتجزأ من الأمن العالمي، وأن إهمال هذه الحقيقة يفتح أبوابًا لمُعقدات دولية صعبة.

على الصعيد الدفاعي، الإعلان عن تفعيل آلية الدفاع المشترك لمجلس التعاون، واعتبار أي اعتداء على دولة عضو اعتداءً على الجميع، يمثل نقلة نوعية في الوعي السياسي الخليجي. قد يرى البعض هذه الخطوة رمزية، لكن الرمزية في السياسة الدولية لا يُستهان بها: فهي ترسم خطوطًا حمراء نفسية قبل العسكرية. مجرد صياغة هذا الالتزام يعني أن أي طرف مُعتدٍ سيحسب ألف حساب قبل التفكير في تكرار أي استفزاز.

أما على الصعيد العربي والإسلامي، فقد حضرت القمة دول متباينة المواقف، لكنها اتحدت في خطاب واحد: الدفاع عن الكرامة، رفض الاعتداء، وتأكيد مركزية القضية الفلسطينية. هذا الإجماع ليس عابرًا، بل مؤشر على أن الأزمات، رغم قسوتها، يمكن أن توحد الصفوف وتُعيد ترتيب الأولويات. رسالة الدوحة كانت موجهة أولًا للداخل العربي والخليجي: ما يجمعنا أكبر مما يفرقنا، وأمن قطر قضية كل الأمة.

ومن ينتقد القمة لأنها لم تتحول إلى رد عسكري فوري، يجب أن يدرك أن السياسة الحكيمة تقاس بالقدرة على إدارة التوازنات الاستراتيجية. في لحظة تقاطع مصالح قوى عظمى وتهديدات حرب إقليمية محتملة، كان الخيار الأكثر حكمة هو التدرج: تثبيت الموقف أولاً، ثم إرسال الرسائل السياسية، ثم البناء على تحركات استراتيجية لاحقة. وقد شهدنا بعد القمة تحركات فعلية، مثل جهود قطر الدبلوماسية نحو واشنطن، وتحركات سعودية وإماراتية تجاه لاعبين إقليميين ودوليين، مما يعكس أن القمة لم تكن نهاية المطاف، بل بداية استراتيجية جديدة.

نجحت قمة الدوحة لأنها أوصلت رسالة واضحة لا لبس فيها: أمن الخليج خط أحمر، والاعتداء على قطر تحدٍ لكل العرب والمسلمين. نجحت لأنها جمعت الصف في لحظة حرجة، وأثبتت أنَّ الدماء التي سالت في الدوحة هي دماء الأمة جمعاء. ونجحت لأنها أرست مبدأً جديدًا في الوعي الجمعي: أن الدفاع عن السيادة يبدأ بالوحدة الداخلية أولًا، ثم بتحالفات قوية وذكية.

القمم ليست شعارات تُرفع، بل محطات على درب طويل. وقمة الدوحة ستظل في الذاكرة كحدث فارق: اللحظة التي أُعيد فيها رسم الحدود، ووُضعت معادلة جديدة للكرامة والسيادة. ومن يستصغرها، لم يفهم بعد أن السياسة تُكتب أحيانًا بالرموز مثلما تُكتب بالبنود. أما الشعوب، فقد فهمت المغزى: الخليج ليس وحيدًا، والأمة عندما تُستفز كرامتها، قادرة على أن تتحدث بصوت واحد، يسمعه كل العالم.

شاركها.