علي بن حبيب اللواتي
منذ أن دخل النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم وآله المدينة المنورة مهاجرًا، لم يكن يحمل هم النجاة الفردية، بل جاء اليها ليقيم دولة، ويبني أمة، ويؤسس حضارة تُنير الزمان والمكان.
وأول ما قام به روحي فداه هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، في مشهد إنساني غير مسبوق، أذاب فيه الفوارق الطبقية والقبلية، ورفع رابطة الإيمان لتكون أساس الولاء والمحبة. ثم أسّس مسجدًا، لم يكن فقط دارآ للعبادة فقط، بل كان مركزًا سياسيًا، وإداريًا، وجامعة تعليمية، ومأوى للفقراء، لتكون في أبهى نموذج للمؤسسات المتعددة الوظائف.
ولأن المجتمع لا يستقيم إلا بنظام، فكتب النبي صلى الله عليه وسلم وآله “وثيقة المدينة”، كأول دستور ينظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من الطوائف الاخرى بالمدينة، على أساس الحقوق والواجبات المشتركة.
ولم يغفل الجانب الاقتصادي، فقد لاحظ تحكم اليهود بسوق المدينة، عن طريق تفشي الربا والاحتكار، فذهب بنفسه إلى أرض فضاء، وخط بعصاه الشريفة مربعات أرضية لتكون أول سوق حرة إسلامية لا ظلم فيها ولا ربا و لا إحتكار؛ فشجع الصحابة على البيع والشراء وفق أخلاق الإسلام.
وكذلك منع بيع الغلال قبل حصادها حتى لا يستغل اليهود حاجة المسلمين فيحتكرون تلك الغلال.
وشجع النبي صلى الله عليه وسلم وآله الصحابة على التجارة الشريفة، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله، ممن كانت تجارتهم مزدهرة بالحلال، وأرسل فرقًا تجارية خارج المدينة، لشراء البضائع مباشرة دون وسطاء يهود وغيرهم محتكرين، وهذا لتفكيك قبضة الإستغلال لسكان المدينة.
كما عمل صلوات ربي عليه وآله على تعزيز الزراعة والإنتاج المحلي، فكان يشجع على بيع المحاصيل في السوق الإسلامية الجديده بالمدينة المنورة، لا إلى المحتكرين والمضاربين.
ولم يغفل عن الصناعة؛ بل بعث الإمام علي بن أبي طالب إلى الروم لاستيراد آلة “النفخ و الأدوات المساعدة” لتأسيس أول ورشة لصناعة السيوف و الرماح في المدينة، مما جعل المسلمين يستغنون عن سلاح أعدائهم.
وحين كانت الحروب على المسلمين تخلّف جرحى ومصابين، أمر بإنشاء خيمة طبية بجوار المسجد، وأسند إدارتها إلى الصحابية الجليلة رفيدة بنت سعد الأنصارية التي تعلمت الطب من والدها؛ فأصبحت أول طبيبة وممرضة في الإسلام، وضمت إليها فريق علمتهم التمريض وأنواع العلاج للجرحى، وكذلك اهتمت بالنساء والحوامل.
أما في البُعد العمراني والتنظيمي، فقد وجّه المسلمين بإماطة الأذى عن الطريق، وقال: “إماطة الأذى عن الطريق صدقة”، لتكون أولى بوادر التنظيم المدني، ويؤسس بذلك النواة الأولى لنظام نظافة وتشجير وتنظيم العمران في المدينة.
وكانت هذه التوجيهات جزءًا من رسالته الخالدة: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، فجعل السلوك المدني امتدادًا للأخلاق الإيمانية.
ولم يكن التعليم غائبًا عن مشروعه الحضاري، فحوّل المسجد إلى جامعة، يجلس فيها الصحابة لتعلم القرآن والأحكام، وأوكل تعليم النساء لابنته السيدة فاطمة الزهراء؛ لتكون اول مديرة لمدرسة النساء بالإسلام، وكان عمرها آنذاك تقريبًا 19 سنة ويساعدها بمهمتها بقية نساء النبي الأكرم كالسوداء بنت زمعة التي تزوجها بعد وفاة السيدة خديجة رضوان الله عليها.
وكذلك أيضا وجّه بعض الصحابة لتعليم من لا يعرف القراءة والكتابة، وكان بنفسه صلى الله عليه وسلم وآله يُعلّم ويُوجه ويشرح، بإسلوب يجعل القلوب تُقبل على الدين حبًا لا رهبة.
أما في أيامه بمكة قبل الهجرة، فقد اشتهر بأنه التاجر الصادق الأمين، فكان يتقن البيع والشراء بعدل ووفاء، ويؤسس بنهجه أخلاق السوق قبل أن توجد أسواق حرة.
وبعد الهجرة، وجّه تجار المسلمين لشراء البضائع من الشام وبلاد أخرى مباشرة، دون أن يتركوا لليهود فرصة الإحتكار، ليقطع بذلك جذور الربا والفساد المالي من المجتمع.
بهذه اخبار عمان المتكاملة، من الأخلاق إلى الإدارة، ومن التعليم إلى العدل، ومن الإقتصاد إلى الصناعة، ومن الصحة إلى العمران، بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله خلال عشر سنوات فقط، صرحًا حضاريًا متماسكًا، لا زال يُلهم العقول، ويأسر القلوب.
يا رسولَ الله، يا مَن أخرجتنا من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، يا من غرست فينا معاني الرحمة، وأرشدتنا إلى كمال الأخلاق، وبنيت لنا دولةً بالعدل، وقُدتَنا بحكمة، فكنتَ القائد والمعلم، الأب والمُصلِح، المربي والطبيب، والمجاهد الحنون.
ما أن نقرأ عن تلك السنوات العشر في المدينة، حتى نشعر أننا لسنا أمام رجل تاريخ، بل أمام روحٍ ما تزال تنبض في قلوبنا، ومشروع حضاري ما زال حيًا في ضمائر الأمم. لم تكن نبوتك فقط موعظة؛ بل كانت بناءً، وإحياءً، وتجديدًا للحياة.
نشتاق إليك، يا رسول الله، كلما رأينا الظلم يستبد في الحياة، وكلما اشتقنا للعدل والنور، وكلما ضاعت الأمة عن طريقها، ففيك القدوة، ومنك العزم، وبسيرتك تُشفى النفوس وتُنهض الشعوب.
سلامٌ عليك يا نبي الرحمة، يوم وُلِدت، ويوم تُبعث ويوم هاجرت، ويوم أقمت دولة العدل، ويوم عدت إلى الرفيق الأعلى… وسلامٌ عليك في قلوبنا إلى أن نلقاك.