الدكتور ذياب بن سالم العبري
تُطلّ علينا الإجازات الصيفية، ومواسم الأعياد، وفترات التوقف من الدراسة والعمل، وكأنها نداءٌ لطيفٌ للنفس بأن تلتقط أنفاسها، وتبتعد قليلًا عن صخب الحياة ورتابتها. وفي كل مرة تُفتح فيها نافذة إجازة، تلوح أمامنا فرصة لا تُقدّر بثمن: فرصة للارتحال، لا بالحقائب فقط، بل بالأفكار والمشاعر والتجربة.
فالسفر، كما قال الإمام الشافعي، فيه سبع فوائد، لكنّ هذه العبارة ليست مجرد حكمة شعرية، بل خلاصة حياة. إذ لا شيء يُجدد الداخل مثل أن تُغادر المألوف، وتفارق الرتابة، وتنطلق نحو المجهول بعين التأمل، وقلب الاستعداد.
فكم من متقاعد أمضى عمره بين الجدران، حتى قرّر ذات إجازة أن يسافر، فاكتشف أنه ما زال قادرًا على الدهشة. وكم من شاب أرهقه السعي وضباب المستقبل، فخرج في رحلة قصيرة، ليعود أكثر هدوءًا واتزانًا. فالسفر ليس رفاهًا، بل دواء. وليس هروبًا، بل عودة إلى الذات من طريقٍ أطول وأعمق.
في طرقات المدن، وفي ضجيج المطارات، تذوب الأحزان، وتتساقط الأثقال، ويبدأ التخفف. وقد تقودك رحلة عابرة إلى فكرة لمشروع، أو إلى لقاء يعيد ترتيب أولوياتك، أو إلى صداقة تُشكّل جزءًا من مستقبلك. فالمتقاعد يرى في سوق شعبي بابًا لعمل كريم بعد الوظيفة، والشاب يجد في دورةٍ أو تدريب فرصة لم يكن ليبلغها وهو جالس في مكانه.
والسفر مدرسة مفتوحة؛ لا جدران لها ولا جداول دراسية، لكنه يُعلّم الإنسان بأعمق الطرق: يُعلّمه الصبر حين تتأخر الطائرة، ويعلّمه التواضع حين يضلّ الطريق، ويعلّمه قيمة ما لديه حين يشتاق لمألوفه. هو علم الحياة، والمقارنة، والانفتاح على الآخر، وهو بوابة لصقل الشخصية وتوسيع المدارك.
ومن جماله أيضًا، أنك لا تسافر وحدك، بل تصطحب معك روحك، وعقلك، وتلتقي بوجوه جديدة، بعضها يصبح مرآتك أو رفيقك. صداقة تبدأ من مصادفة في مقهى، تمتد إلى سنوات. دفء إنساني يجده المتقاعد بعد سكون الأيام، ويجده الشاب فيمن يشاركه الطموح والتجربة.
لكن لئلا يُساء فهم هذا المقال، فإننا لا نروّج للسفر على حساب الضرورات، ولا ندعو من لا يملك استطاعة إلى التكلّف أو اللجوء إلى القروض. فليست القيمة في المسافة، بل في أثر التجربة. ومن لا يستطيع السفر بعيدًا، فليجعل من رحلاته القريبة، أو من إجازته الهادئة في بلدته، مساحة للتأمل والتعلم والتجدد.
إن مواسم الإجازات ليست وقتًا ضائعًا، بل فرصة ثمينة لإعادة التوازن، واكتشاف الذات، وتنمية النفس. سواء كنت شابًا في مطلع الطريق، أو متقاعدًا تستأنف الحياة من زاوية جديدة، فإن السفر بمعناه العميق هو هجرة مؤقتة تعود منها بروحٍ أهدأ، ونظرة أوسع، ووعيٍ أكثر نضجًا.
وهكذا، لا يبدأ التغيير في الحقائب… بل في النفوس.