خالد بن سعد الشنفري

كتب لي الأستاذ الدكتور العزيز مسعود عمشوش، ابن سيئون بوادي حضرموت، وأستاذ الأدب العام والمقارن جامعة عدن بعد أن قرأ مقالي الأخير مشروع الغارف ترسيخ للهوية، قائلًا: “كأنك تتحدث عن وادي حضرموت!”

ذلك أنني قد أفردت فقرة رئيسية من المقال عن السناوة في ظفار قديمًا، وذكر لي حكمة حضرمية تقول: السناوة ولا شغل جاوة،

ذلك أن هجرة العرب الحضارم إلى إندونيسيا التي يُطلق عليها الحضارم “جاوة” كانت منذ القرن الثامن الميلادي، وتركّز معظمهم في جاوة، وشكّلوا بها مجتمعًا عربيًّا حضرميًّا في غاية الأهمية: تجارةً، واقتصادًا، وثقافةً، وسياسةً، وتبوأوا فيها مراكز عليا معروفة على مدى السنين وإلى اليوم.

وبالتالي، فإن الهجرة إلى جاوة كانت تُغري الكثيرين منهم، ومن هنا أتى المثل الحضرمي بأن البقاء في الأرض، والتشبّث بها، واستخراج ماء الحياة من باطنها عن طريق السناوة وزراعة الأرض، أفضل وأشرف لهم من الهجرة إلى جاوة، رغم مغرياتها الكثيرة.

وسبق للدكتور عمشوش أن كتب مقالًا في العام الماضي في (مجلة الأول) بعنوان:

كلمات عامية مشتركة بين اللهجة الحضرمية واللهجة الظفارية، وذلك بعد أن قرأ روايتي طفلة، والتي ضمّنتها عشرات الكلمات الظفارية الدارجة، مع شروح لها في الهوامش.

وقد صدر للدكتور عمشوش هذا العام (2025) كتاب بعنوان: لهجة حضرموت في كتابات فان دن بيرخ وكارلو دي لاندبرج بتصرف وذكر في مقدمته أن الحضارم في مطلع الألفية الميلادية الأولى كانوا يستخدمون لغة عربية جنوبية، ومنذ دخولهم الإسلام في مطلع القرن الأول الهجري أخذت اللغة العربية (الحجازية) الفصحى تحل محل الحضرمية (لغة حضرموت الجنوبية القديمة) في الكلام والكتابة تدريجيًّا. وأشار إلى أن عددًا من اللغويين المستعربين، مثل الهولندي فان دن بيرخ، والسويدي كارلو دي لاندبرج، والبريطاني روبرت سرجانت وغيرهم، قد اهتموا بدراسة لهجة حضرموت لإيمانهم بأنها تتضمن عددًا من آثار اللغة العربية الجنوبية القديمة (لغة مملكة حضرموت)، والتي يمكن أن تساعدهم على حل بعض ما التبس عليهم في الكتب المقدسة، وكذلك لفهم تطور اللغات السامية بشكل عام.

وأشار الدكتور عمشوش إلى أنه منذ تسعينيات القرن الماضي، شرع عدد من الباحثين الأكاديميين الحضارم لا سيما من أقسام اللغة الإنجليزية في إعداد أبحاث ورسائل علمية حول لهجتهم. وأشار إلى أن أطروحة الدكتوراه التي أعدّها عبدالله السقاف سنة 1999 تُعتبر من أهم تلك الدراسات، وفي سنة 2001 أنجز الدكتور شوقي باحميد دراسة للهجة الحضرمية ترتكز على ترجمة أربعين مثلًا حضرميًّا إلى الإنجليزية من قِبل متحدثين باللهجة الأردنية. وفي سنة 2006، نشر د. عبد الله السقاف بحثًا آخر حول الكلمات الإنجليزية المستعارة في اللهجة الحضرمية، وفي سنة 2023، قامت د. نجاة أبو سبعة مع باحثتين من السعودية بدراسة مقارنة بين اللهجات السعودية الجنوبية المستخدمة في منطقتي عسير ونجران… (انتهى الاقتباس).

الشاهد أنني من مقال الدكتور عن روايتي طفلة قبل عام من الآن، وإشارته إلى مدى التشابه الكبير، بل التجانس بين ما ذكرته فيها من مصطلحات دارجة لدينا في ظفار ولهجة حضرموت وبعد أن شرّفني الله بالزواج من امرأة حضرمية فاضلة، واختلاطي بأهل حضرموت عرفت عمق هذا التشابه.. ولكنني للأسف لست بباحث في المجال، وحالتي الصحية الآن لا تُعينني على ذلك.

والدور اليوم يقع على الباحثين الأكاديميين من طلبة وخريجي كلية الآداب بجامعة ظفار، ويا حبذا لو تُعجّل الجامعة مشكورة بإنشاء مركز اللغات المزمع إنشاؤه، والذي سيكون من ضمن اختصاصه بحوث ودراسات ليس فقط في اللهجات العُمانية الدارجة على مستوى المناطق عمومًا، بل وحتى اللغات غير المكتوبة منها، كالجبالية مثلًا في ظفار، والتي ينطق بها نصف سكانها تقريبًا، وقد قلّ عمقها اللغوي كثيرًا عمّا كانت عليه مع الرعيل الأول، الذين نتذكرهم قبل خمسين عامًا، ولم يعد يمتلك ذلك العمق اللغوي لها إلا القليلون من كبار السن، ومن شعراء فني الدبرارت والنانا بها، وكذلك اللغة البطحرية، واللغة الشحية، وغيرها في بقية المناطق.

بالإضافة إلى دراسة وبحث التشابه الكبير بين اللهجتين الظفارية والحضرمية تأصيلًا وتحليلًا، وكذلك جمع ما كتبه المستعربون الأجانب وهم كثر عن لهجاتنا العمانية بشكل عام، وأيضًا الكلمات الأجنبية المستعارة التي دخلت عليها مؤخرًا من اللغات الإنجليزية والهندية، على سبيل المثال.

وأني على يقين بأن الدكتور عمشوش لن يبخل بتقديم أي عون في ذلك، فهو ابن جارتنا حضرموت أولًا، وحاصل على الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة السوربون منذ عام 1988، ويرأس مركزًا مرموقًا للترجمة، وشغوف بهذا الجانب عمومًا، وله عدة مؤلفات، وقد التقيته في عدن قبل عام وأعرف الرجل جيدًا.

وهنا لا يفوتني أن أشكر الأخ والزميل الأستاذ ابن ظفار حامد باوزير، على ما بذله من جهد مشكور في تأليف كتابه “مفردات العربية الدارجة في ظفار، والذي اشتمل على أكثر من ثلاثة آلاف مفردة دارجة ظفارية، وقد استغرقه ذلك عدة سنوات. ويُعتبر كتابه هذا باكورة وبمثابة مادة دسمة لأي باحث، وقد حفظ لنا هذا الإرث الثمين من الاندثار، ذلك أن كثيرًا من هذه المفردات قد هُجرت خلال الخمسين عامًا الأخيرة من عمر نهضتنا الحديثة، ولم تعد مستخدمة حاليًّا، ويُخشى من ترك الباقي منها بالتدريج في هذا العصر السريع التغيير في كل شيء، وبالتالي أصبح لزامًا توثيقها، حتى يُقيّض لها أجيال من شبابنا الأكاديمي المتخصص لدراسة وتحليل كافة أبعادها الثقافية، والاجتماعية، والتاريخية.

 

شاركها.