الشيطان في الانتخابات الأمريكية | جريدة الرؤية العمانية
حاتم الطائي
◄ الطريق إلى البيت الأبيض مليء بالمفاجآت.. و”الديمقراطية الأمريكية” في اختبار صعب
◄ لا فرق بين الديمقراطيين والجمهوريين في التعاطي مع القضايا العربية
◄ فوز ترامب أو خسارته سيمثل منعطفًا خطيرًا على أمريكا والعالم
يترقبُ العالم يوم الخامس من نوفمبر أي بعد غدٍ الثلاثاء ما ستُسفر عنه انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تُعد أهم انتخابات رئاسية في العالم، ويتنافس فيها هذه المرة نائبة الرئيس كاملا هاريس عن الحزب الديمقراطي، والرئيس السابق دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري، وهي انتخابات يُنظر إليها بدرجة من القلق والتوجس، بسبب ما شهدته من سجالات وأحداث مُثيرة، ليس أقلها انسحاب المُرشح الأصلي جو بايدن بسبب مشكلاته الصحية، إلى جانب محاولتي اغتيال على الأقل للمرشح الجمهوري دونالد ترامب.
لكن وكعادة الانتخابات الأمريكية، فإنِّها غالبًا ما تكون حُبلى بالمُفاجآت، سواء في نتائجها أو الأحداث التي تليها، خصوصًا وأن الدورات الانتخابية الأخيرة شهدت أحداثاً غير مسبوقة؛ سواء فيما يتعلق بالتشكيك في نتائجها أو اندلاع أعمال عنف وشغف اعتراضًا على النتائج التي تزعم واشنطن على الدوام أنها تُمثِّل “الديمقراطية” و”الاختيار الحُر” للشعب الأمريكي. ولا ريب أنَّ الشعب الأمريكي له مُطلق الحرية في اختيار من يراه الأصلح لقيادة بلاده؛ فالولايات المتحدة مُتخمة بالمشكلات على المستويات كافة، اقتصادية وسياسية وعسكرية وأمنية واجتماعية. ونظرًا لأنَّ النظام الانتخابي الأمريكي “فريد” من نوعه، ولا نجده في أي نظام ديمقراطي في العالم، فإننا سنتجاوز تفاصيل هذا النظام الذي يضع القرار الانتخابي في يد “نُخبة” تحدد مصير الانتخابات تُسمى “المجمع الانتخابي”، بصرف النظر عن عدد أصوات المواطنين الأمريكيين، تمامًا مثلما حدث في انتخابات 2016 عندما تعرضت هيلاري كلينتون للهزيمة أمام دونالد ترامب، برغم حصولها على نحو 66 مليون صوت، مقابل 63 مليون صوت لترامب!
لكن ما يعنينا في هذه الانتخابات، هو كيفية تعامل الإدارة الأمريكية الجديدة مع الأوضاع في الشرق الأوسط، وفي القلب منها قضيتنا العادلة فلسطين، خاصة في ظل جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بدعم وتسليح أمريكي غير مسبوق بحق المدنيين الفلسطينيين العُزل بقطاع غزة، وتحت حماية سياسية ودبلوماسية لم نشهدها من قبل، خاصة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ حيث أشهرت واشنطن الفيتو أكثر من مرة ضد قرارات تصب في صالح وقف إطلاق النَّار في القطاع. ومن المُؤسف أن تعاطي الإدارات الأمريكية لا يختلف كثيرًا تحت حكم الديمقراطيين أو الجمهوريين؛ فالأهداف الاستراتيجية تتطابق، لكن الأساليب وفترة التنفيذ تختلف حسب رؤية الرئيس وإداراته، لا سيما وأنَّ لكل إدارة “صقور” تنفخ في نيران الحروب والصراعات وتأجيج الأوضاع، و”حمائم” تحاول كبح جماح فائض القوة الأمريكية في العالم.
ورغم مرور أكثر من عام على اندلاع العدوان الإسرائيلي على غزة وامتداده إلى الضفة الغربية وإلى لبنان وإلى سوريا وإيران، وما شهدته هذه الفترة من أحداث كبرى زلزلت المنطقة من اغتيالات سياسية على أعلى مستوى، وجرائم إبادة وحرب تجويع وسياسات الأرض المحروقة، إلّا أن الموقف الأمريكي تحت إدارة الديمقراطي جو بايدن لم يتغير قيد أنملة؛ بل وبلغ التبجُّح مبلغه بتصريحات أقل ما توصف بأنَّها مُستفِّزة، عندما أكد بايدن من تل أبيب أنه “إذا لم تكن هناك إسرائيل لكُنا أوجدناها”، وقوله أيضًا: “ليس عليك أن تكون يهوديًا لتكون صهيونيًا، وأنا صهيوني”، وهو التأكيد الذي أطلقه أكثر من مرة. ومن بعده وزير خارجيته أنتوني بلينكن الذي قال في أوَّل زيارة له لإسرائيل بعد “طوفان الأقصى”: “أزور إسرائيل ليس بصفتي وزيرا للخارجية وحسب؛ بل بصفتي يهوديًا”.
أما الرئيس السابق والمرشح الحالي دونالد ترامب، فقد حقق أحلام دولة الاحتلال في الاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس، في مُخالفة صريحة للشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة، بأن تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين. أضف إلى ذلك تصريحات عديدة لترامب يُعلن فيها عن دعمه المطلق لإسرائيل؛ بل إنِّه حتى يُفكِّر في “توسيع” مساحتها، لأنه يرى أن “إسرائيل صغيرة جدًا”!
هذا الموقف العقائدي لدى الإدارة الأمريكية بضرورة دعم إسرائيل وحمايتها واعتبارها رأس حربة لها في منطقة تحرص الولايات المتحدة على استنفاد مواردها وخيراتها، لا يتغير بتغيُّر الرؤساء ولا الحزب الحاكم، فـ”الحمار” مثل “الفيل”، حتى ولو اختلفت الألوان، لكن السياسات والاستراتيجيات لا تتبدل.
وعندما نُمعِن النظر في المرشحين الحاليين: هاريس وترامب، نجد أن كلاهما يتوددان إلى إسرائيل ويسعيان لنيل دعم اللوبي اليهودي ممثلًا في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية “آيباك”، والتي تُعد أكبر جماعة ضغط إسرائيلية داخل الولايات المتحدة، ويُمولها كبار أثرياء اليهود، وتضع مقدراتها وتبرعاتها لصالح المرشح الأكثر خدمةً لإسرائيل. هذا إلى جانب دور هذه اللجنة الحاسم في توجيه الناخبين اليهود للتصويت لمرشح بعينه. فلا فروقات استراتيجية بينهما فيما يخص قضايانا العربية وبالأخص قضية فلسطين؛ فالديمقراطيون شركاء في حرب الإبادة، وترامب الجمهوري لا يُمانع في تنفيذ هجمات وحشية أكبر ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، ويُصرِّح بذلك بكل فجاجة؛ إذ إنَّ ما يعني الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط أولًا هو أمن الكيان الصهيوني، ومن بعده ضمان السيطرة على النفط وأسعاره.
وبعيدًا عن مدى حظوظ كل مرشح منهما في هذه الانتخابات، خاصةً في الولايات المُتأرجِحة (نيفادا وأريزونا وجورجيا وكارولاينا الشمالية ووسكونسن وميشيجان وبنسلفانيا)، إلّا أن فوز ترامب أو خسارته ستمثل مُنعطفًا خطيرًا على أمريكا بالكامل، بل والعالم؛ إذ إن ترامب بطبعه شخص لا يعترف بالهزيمة أبدًا ويرى الحياة باعتبارها “صفقات لا تقبل الخسارة”، ويكفي ما أحدثه من تأجيج وتحريض على العنف في أعقاب خسارته في انتخابات 2020، وتقديمه للمُحاكمة في سابقة تاريخية لم تحدث في الولايات المتحدة. لذلك لا نستبعد أبدًا أن يُكرر ترامب ذات السيناريو حال خسارته أمام هاريس، وسيدعو أنصاره لإشعال المدن الأمريكية، والزعم بأنه انتصر لكن الديمقراطيين زوَّروا الانتخابات، وإذا ما حدث ذلك لا يُمكن توقع النتائج المُرعِبة على المجتمع الأمريكي والعالم على حد سواء.
وفي المقابل، فإنَّ انتصار ترامب يعني دعمًا كبيرًا لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وخططه التوسعية فيما يعرف بـ”الشرق الأوسط الجديد”، وهو المصطلح الذي أطلقه ترامب في ولايته الأولى، وسيعمل على مساعدة الكيان الصهيوني على ضم الضفة الغربية والجولان السورية وشمال قطاع غزة رسميًا إلى دولة الاحتلال، وهذا يعني المزيد من الدماء والحروب في منطقتنا المُثخنة بالجراح والظلم بالأساس.
هُنا يتعين على الأنظمة العربية جميعها، أن تتحمل مسؤولياتها التاريخية في التصدي للخطر الصهيوني التوسعي، وألا يقف الأمر عند نداءات الشجب والإدانة؛ بل تنفيذ تحركات دبلوماسية مع الولايات المتحدة، واتخاذ موقف جماعي موحّد يؤكد أنَّ إقامة الدولة الفلسطينية ووقف حمام الدم في غزة ولبنان، شرط لبناء علاقات عربية أمريكية طبيعية، وإلّا ستتحول منطقتنا إلى بؤرة ملتهبة من العنف اللانهائي؛ إذ لن يكون هناك سلام في المنطقة العربية دون أي حل نهائي وعادل ودائم للقضية الفلسطينية، وغير ذلك سندفع جميعًا أثمانًا باهظة، وستصُب الأجيال القادمة جام غضبها ولعناتها علينا جميعًا. وبالتوازي مع دور الأنظمة الرسمية، لا يجب أن نغفل دور المُثقَّفين العرب ووسائل الإعلام في التوعية بالأخطار المُحدِّقة نتيجة لهذا الظلم التاريخي الذي يتعرض له الأشقاء في فلسطين، والآن لبنان، ولا نعلم على من ستدور الدائرة!
ويبقى القول.. إنَّ الخامس من نوفمبر يومٌ مفصليٌ في تاريخ الولايات المُتحدة والعالم، وبعد هذا التاريخ لن تعود أمريكا إلى ما كانت قبله؛ فالنتائج والتداعيات ستكون عميقة التأثير، لا سيما وأن مؤشرات الانهيار الحضاري تتزايد، في ظل تعمُّق الخلافات والانقسامات داخل المجتمع الأمريكي، بالتوازي مع الانهيار الحاصل لكيان الاحتلال، وكلاهما يؤثران على بعضهما البعض، ويجب علينا في هذه المنطقة أن نظل مُؤمنين بالحق العادل للشعب الفلسطيني، وضرورة أن يحيا الشرق الأوسط في أمان واستقرار، فهذه الشعوب تحمّلت الكثير من المظالم وآن الأوان لأن يسود العدل والحياة الكريمة لكل إنسان عربي.