حسين الراوي

في زمنٍ كانت فيه السينما تُشبه السحر، وكان دخول قاعة العرض أشبهَ بالدخول إلى معبدٍ من الضوء، كان الناس يجلسون متلاصقين في العتمة، يحدقون في شاشةٍ بيضاء تحوِّل الخيال إلى واقعٍ، والواقعَ إلى حلم. كانت السينما حدثًا جماعيًا، وطقسًا من طقوس الحياة، يلتقي فيه العاشق واليتيم والعجوز والطفل في دهشةٍ واحدة، تحت سلطة الصورة والموسيقى.

لم تكن السينما تسليةً كما هي اليوم، بل كانت ذاكرة الشعوب وأرشيف القلوب. كل مشهد يُعرض على الشاشة كان يترك في الناس أثرًا لا يُمحى، وكل فيلم كان يعيش في ذاكرتهم كما يعيش الحنين في أرواحهم. كانت السينما هي الفن الذي جعل الإنسان يؤمن بأنّ الضوء يمكن أن يُحاكي العاطفة، وأنّ الصورة تستطيع أن تقول ما تعجز اللغة عنه.

وفي هذا الفضاء المضيء، وُلد فيلم «سينما باراديسو» (Cinema Paradiso) للمخرج الإيطالي جوزيبي تورناتوري، كرسالة حبّ إلى السينما الأولى، وإلى طفولة العالم قبل أن يغزوها الإسفاف والسطحية. الفيلم يأخذنا إلى قريةٍ صغيرة في جنوب إيطاليا، حيث يعيش الطفل توتو مفتونًا بعروض السينما المحلية، ويفتح عينيه على عالمٍ جديد من الأحلام بفضل مشغّل آلة العرض ألفريدو، الرجل الطيب الذي يصبح له أبًا ومعلمًا ورفيق درب.

لكن الحكاية لا تقف عند حدود الصداقة، بل تتجاوزها إلى رمزيةٍ أعمق: ألفريدو هو الذاكرة، الحكمة، والحنين الذي يدفع توتو إلى مغادرة قريته بحثًا عن ذاته؛ وتوتو هو الحلم الطفولي الذي يرحل لكنه لا ينسى. وعندما يعود بعد عقودٍ طويلة لوداع أستاذه الراحل، يجد أن قاعة السينما قد هُدمت، وأنّ طفولته ذهبت مع الغبار — غير أنّ ألفريدو ترك له هديةً خالدة: شريطًا سينمائيًا جمع فيه كل المشاهد المحذوفة من الأفلام القديمة، تلك القبلات واللحظات التي مُنع عرضها ذات يوم.

حين يشاهد توتو ذلك الشريط، لا يرى صورًا فقط، بل يرى حياته نفسها. يرى الطفولة، الوجوه التي غابت، الأماكن التي اندثرت، وكل ما لم يعد. إنها لحظة مواجهةٍ بين الحنين والزمن، بين الصورة والذاكرة، بين الإنسان وظلّه.

رمزيًا، «سينما باراديسو» هو فيلم عن الفقد بوصفه وجهًا آخر للذاكرة، وعن السينما بوصفها الوسيلة التي تمنح الغائبين حياة ثانية.
إنه يذكّرنا بأنّ ما نحبّه لا يرحل، بل يتحوّل إلى ضوءٍ يسكننا، كما تسكننا الموسيقى أو رائحة المطر.

في النهاية .. كلّ ما نحبه في الطفولة نفقده، لكننا نحمله معنا في صورةٍ أخرى،  في ذاكرة، في مشهدٍ، في عطرٍ قديم، أو في قبلةٍ محذوفةٍ من فيلمٍ قديم.
وهكذا يبقى الإنسان، مهما ابتعد، يعيش في دائرة الضوء ذاتها؛ يعود كلما أظلمت الدنيا إلى تلك اللحظة الأولى التي أدهشته فيها الصورة، وأضاءت روحه للمرة الأولى.
ربما لم تكن السينما يومًا مجرد شاشة تُعرض عليها القصص، بل كانت دائمًا مرآةً نرى فيها وجوه الذين غابوا، وملاذًا نختبئ فيه من خسارات العمر.

شاركها.