اخبار عمان

القضية الفلسطينية والوعي الجمعي | جريدة الرؤية العمانية

 

د. محمد بن خلفان العاصمي

 

“سجِّل: أنا عربي

ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ

وأطفالي ثمانيةٌ

وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيفْ!

فهلْ تغضبْ؟

سجِّلْ: أنا عربي

وأعملُ مع رفاقِ الكدحِ في محجرْ

وأطفالي ثمانيةٌ

أسلُّ لهمْ رغيفَ الخبزِ،

والأثوابَ والدفتر

من الصخرِ

ولا أتوسَّلُ الصدقاتِ من بابِكْ

ولا أصغرْ

أمامَ بلاطِ أعتابكْ، فهل تغضب؟”. محمود درويش.

وضع إميل دور كايم في عام 1893 نظريته الشهيرة المعروفة بـ”الوعي الجمعي”، والتي يرى فيها أن المجتمعات تظهر حين يجمع أفرادها شعور بعضهم بالتضامن حيال بعض، وهكذا كانت القضية الفلسطينية عبر تاريخها تجمع المسلمين جميعًا من مشارق الأرض ومغاربها لما تمثله القدس من قيمة دينية للمسلمين حتى أن القضية في بدايتها كانت تعرف بالقضية الإسلامية، وما لبثت أن تحولت إلى قضية عربية بعد أن جردت إسرائيل المعنى الإسلامي من روح القضية خاصة بعد التحولات الجيوسياسية التي أنتجتها الحرب الباردة وإنقسام العالم إلى معسكرين.

وخلال المرحلة التالية وبعد حرب 1973 وما تلاها من أحداث مثل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، وصولًا إلى توقيع مُعاهدة كامب ديفيد في 1979، وصلت الخلافات العربية إلى مرحلة مختلفة، تحوَّلت القضية بعدها إلى قضية فلسطين وقضية اللاجئين، وأخذت هذه القضية تشهد تحولات إلى أن أصبحنا لا نسمع كلمة فلسطين حتى، وحُصِرَت القضية في غزة، ومُشكلة اللاجئين والبحث عن قبول من إسرائيل بالموافقة على حل الدولتين ومنح الفلسطينيين أرضًا يُقيمون فيها دولتهم، وهكذا تغيَّرت المصالح وتلاشى الوعي الجمعي الإسلامي والعربي شيئًا فشيئًا.

هذه التحوُّلات لم تحدث اعتباطًا؛ بل كانت مُمنهَجة من قبل الكيان الصهيوني وأذرعه من الغرب والشرق، الذين أسهموا في وصول الخلافات العربية العربية إلى مراحل أدت إلى مُواجهات مباشرة، تسببت في تعمق المواقف تجاه القضايا العربية المشتركة، وأهمها القضية الفلسطينية، التي كانت الضحية الأبرز فيما حدث. وقد كانت هي الهدف الأساسي من هذه الصراعات السياسية التي افتُعِلت لأسباب كان من المُمكن تجنُّبها لو أنها لم تُدر بعقلية التعصب والتشدُّد وعدم قبول الآخر ومحاولات الهيمنة والإقصاء. لقد نجح الصهاينة وبمهارة كبيرة في تفتيت القضية وتحويلها من شأن إسلامي عربي إلى شأن يخص كل دولة على حدةٍ.

وما نشاهده اليوم من مواقف بعض العرب حيال القضية الفلسطينية وخاصة “طوفان الأقصى” ما هو إلّا نتيجة لجميع ما حدث سابقًا من اضمحلال في الوعي الجمعي العربي، وغياب الهدف الواحد والمصير المشترك، وعدم معرفة العدو الحقيقي الذي يُهدِّدهم جميعًا، وغياب القدرة على التفاعل مع الخلافات وفق منطلق ثابت من المبادئ والقيم التي تنطلق من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف وحفظ حقوق الجوار والأخوة التي تجمعهم، إضافة إلى عامل آخر مُهم جدًا وهو التعامل مع القضية الفلسطينية من منظور المصلحة الخاصة بكل دولة على حدة؛ الأمر الذي أدى إلى فشل جامعة الدول العربية في القيام بدورها في مواجهة تجاوزات دولة الاحتلال الصهيوني، مما تسبب في إضعاف المنظمة العربية التي أنشئت من أجل توحيد كلمتهم.

لقد أنتج هذا الوضع فئة من أبناء الدول العربية والإسلامية هم أشد صَهْيَنةً من الصهاينة أنفسهم، وكما قال المُفكِّر المصري عبدالوهاب المسيري رحمه الله أن المستقبل سيحمل لنا نوعًا من الإنسان العربي المُسلم يُعرف بـ”الصهيوني الوظيفي”، الذي يؤدي الوظائف نفسها التي كان يؤديها القائد العسكري الإسرائيلي أو التاجر اليهودي الموالي لإسرائيل. وهو ما نشاهده اليوم من بعض العرب والمُسلمين الذين يهاجمون المقاومة وقادتها ويفرحون لموتهم ويُهلِّلون لإسرائيل عندما تقصفهم وتبيدهم وتبيد الشعب الفلسطيني الأعزل، ويتمنون زوال دول إسلامية بعينها ويشنون حربًا شعواء ضد من يقف مع القضية الفلسطينية، انطلاقًا من تعصُّب مذهبي وطائفي وصل إلى درجة الموالاة لغير المُسلمين والاعتقاد بأنهم خير من المسلمين!

لقد أثَّرت الخلافات السياسية بين الدول العربية والإسلامية والتي نتجت في الأساس لأسباب متعددة؛ منها ما هو سياسي صرف، ومنها ما هو ديني طائفي عرقي. أثرت بشكل كبير على تشكيل التوجهات التي نشاهدها اليوم نحو القضية الفلسطينية، وهو ما يشير بشكل واضح إلى غياب الوعي بشتى أنواعه. وهذا يعيدنا إلى قضايا مُهمة جدًا ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر فيما حدث، مثل الثقافة والمعرفة بالقضية وتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك إشكاليات الهوية العربية والإسلامية ومدى تأثير ذلك على تشكيل الوعي، وهي نواتج لما وصلت إليه بعض المجتمعات العربية من تغييب مُمنهج وتوجيه سياسي مقصود بغية الوصول إلى ما نراه اليوم.

على كل حالٍ.. لا بُد من مُراجعة السياسات التي أدّت إلى هذا المستوى من التعاطي مع قضية فلسطين التي كانت في يوم ما قضية كل العرب والمسلمين دون جدال أو نقاش، فهذا الوضع يُنذر بتفوق هذا الكيان وقدرته على تحقيق أهدافه الكبرى، إن لم يتدارك العرب والمسلمون الوضع ويعملوا على تصحيح الواقع من الداخل العربي، قبل أن يصدُق فيهم المثل الشهير “أُكِلتُ يوم أُكِل الثور الأبيض”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *