د/ عبدالله باحجاج
أؤمن ومعي كثيرون، أن حل القضايا والظواهر السلبية بصورة مثالية لن يتأتى لأي مجتمع إلا عبر الشراكة الثلاثية، وهي: الجهات التنفيذية الحكومية المركزية واللامركزية والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، وكلما تكون الشراكة الثلاثية فعَّالة، تكون منتجة أكثر من حيث التأثير والشمولية، على عكس لو تم الاعتماد على جهة أو حتى جهتين دون إشراك المجتمع.
وهناك الكثير من الظواهر السلبية التي بدأت تتصاعد بشكل ملموس فوق السطح مؤخرا، قد تلقي بظلالها على أمن المجتمع واستقراره، وما يقلق منها مسألتان هما: تزايدها بشكل لافت، وأن أخطرها قد يصبح أكبر وأشد وطأة لوجود بيئات قد تساعد على انتشارها طولا وعرضا وفي الأعماق، ولذلك تستدعي إشراك المجتمع، وإدماجها أي الشراكة ضمن بنية الفعل الحكومي التكاملي، واعتبار ذلك من حتميات الحل المنتج للنتائج المبهرة.
ونشدد هنا على وجود البيئات في ظل ذهنيات اجتماعية صعبة لا يمكن التغلغل فيها، وتوجيهها إلا من قبل المنتمين لها عضويا أو وظيفيا، وهذه الذهنيات لا بدَّ أن يُعتد بها لنجاح حل الظواهر أو حتى الحد منها، وبالتالي لا يمكن مواجهة الظواهر السلبية إلا من خلال مشاركة فعَّالة وتكاملية وتناغمية بين تلكم القطاعات الثلاثية، وبالذات إشراك المجتمع عبر الفاعلين من أبنائه، خاصة المؤمنين بهذه الشراكة، وعندما تتزايد ظاهرة ما رغم جهود المكافحة، فينبغي العلم أن هناك تغيبا أو غيابا للشراكة المجتمعية، وهذه قاعدة مرجعية واسترشادية، لماذا؟ لأن هناك مساحات داخل المجتمع لا يمكن أن ينفذ إليها إلا المجتمع نفسه، مهما كانت أدوار الشركاء الآخرين، فالفاعلون الاجتماعيون نخب محلية من مختلف الحقول العلمية والاجتماعية والثقافية هم الأقرب، وهم الأولى، وهم المقبولون اجتماعيا.. لذلك سيتمكنون من المساهمة الفعَّالة والمؤثرة في تحقيق أجندات مؤسسات الدولة وتوجهاتها، والدافعية عندهم تطوعية يغلب عليها الواجب أكثر من الوظيفة المقيدة بساعات.
فلو أخذنا، على سبيل المثال فقط، قضية المخدرات والقات التي تبذل الجهات الحكومية المركزية واللامركزية جهودا جبارة في مكافحتها، وفي كل فترة زمنية قصيرة تعلن السلطات المختصة عن إلقاء القبض على عمليات تهريب.. فهذه الجهود المباركة ستتوقف عند مساحات لا يمكن اختراقها، ولو تمكنت فلن تكون شاملة وعميقة على عكس الأدوار الاجتماعية التي يمكنها أن تخترق داخل البنيات الاجتماعية، وتنفذ إلى القناعات، وتخرج منها بنتائج تكاملية مذهلة، ليس قصورا في الجهود الحكومية، وإنما لطبيعة الأدوار ومركزيتها، والأهمية المتعاظمة للشراكة الاجتماعية.
فأهم المساحات الاجتماعية التي يمكن أن تتغلغل فيها بنجاح أدوار الفاعلين الاجتماعيين، ونقدمها هنا كأمثلة إقناعية وليست حصرية:
- تشكيل ضغط اجتماعي كبير على تجار السموم، وجعل معركة الجهات الحكومية معركة دولة شاملة، بصرف النظر هنا عن حجم الظاهرة، فمن المؤكد أن قضية المخدرات والقات من القضايا التي نتوقع تصاعدها وانتشارها بصورة مقلقة لعوامل خارجية قد أصبحت معلومة لذاتها، تتقاطع معها بيئات داخلية.
- إقناع أسر المدمنين على طلب العلاج طواعية.
- دعم المتعافين وأسرهم.
- نشر الوعي الوقائي وتعزيز قيم الهوية / الأسرة، المدرسة، المجتمع.
- التخفيف من الوصمة الاجتماعية للعار.
- إنتاج محتوى توعوي لدواعي الإقناع.
- ضغطهم الإيجابي في الاستعجال بإقامة مركز متخصص للعلاج في المحافظات التي تبعد عن محافظة مسقط، التي تقع فيها مثل هذه المراكز، وذلك عبر إقناع الشريك الآخر في القطاع الخاص بتقديم الدعم المالي لإقامة المراكز، وبيان أهميتها العاجلة.
وتلكم مساحات اجتماعية كبيرة ومهمة لن يشغلها بمثالية إلا النخب من داخل كل مجتمع، من هنا يستوجب إشراك المجتمع في مكافحة الظواهر السلبية بمختلف أنواعها، وهذه حتمية تمليها طبيعة الحقبة الزمنية الراهنة التي تتميز بكثرة ظواهرها السلبية عالميا، وفي منطقتنا الخليجية على وجه الخصوص، لذلك لا بد من الرهان على أدوار الشريك الاجتماعي في الذهاب بعيدا في تلكم المساحات الاجتماعية، فإقناع أسرة بأن تسليمها لابنها المدمن للجهات المختصة لن يعاقب، إنه سيدخل لمركز التعافي بديلا من السجن، وأنهم معنيون بعودته الطبيعية للمجتمع مجددا، وأنه سيكون في أيدٍ أمينة.. مثل هذه المهمة يمكن أن ينجح فيها الفاعلون في المجتمع أكثر من غيرهم ، كما يمكن للفاعلين أن يقنعوا القطاع الخاص بضخ الأموال اللازمة لدعم الجهات الحكومية لدواعي الاستعجال بإقامة المركز المحلي.
وعندما كنت أبحث مع زملاء يشاركونني قناعة حتمية الشراكة المجتمعية، كنا نبحث عن التشريعات والقوانين التي يمكن أن تنظم الشراكة المجتمعية، اكتشفنا أن المشرع الدستوري والقانوني في بلادنا قد كان له السبق في الوعي المسبق بهذه الشراكة، اكتشفناها في تبني نظام اللامركزية كنهج لإدارة المحافظات بخصوصياتها الترابية وتحدياتها التنموية والاجتماعية في إطار الجغرافيا الوطنية، وهنا نستشهد بالمادة 11 الفقرة 7 من اختصاصات المحافظ في نظام المحافظات التي تدعوه إلى “التواصل مع المجتمع المحلي بما يخدم الصالح العام في نطاق المحافظة”، وبالتالي، فإن إيجاد دينامية فعَّالة بين المحافظ والمجتمع لحل الظواهر السلبية، تدخل في إطار الغايات الكبرى للامركزية، وهنا نستشهد كذلك بالمرسوم السلطاني رقم 126/2020 المتعلق بإصدار قانون المجالس البلدية، فالمادة مثلا “21” تنص على دراسة القضايا الاجتماعية والظواهر السلبية في المحافظة، واقتراح الحلول المناسبة لها بالتعاون مع الجهات المختصة، وتنص كذلك على العمل على توعية المجتمع المحلي.
وقد جاءت اللائحة التنفيذية لقانون المجالس البلدية ترجمة واضحة لقانون المجالس البلدية، وذلك عبر تنصيصها على تشكيل أربع لجان دائمة، هي لجنة الشؤون القانونية، ولجنة الشؤون الاجتماعية، ولجنة الشؤون الصحية والبيئة، ولجنة تطوير وتنمية المحافظة، وهذا يعني أن الشراكة المجتمعية قد أصبحت إلزامية في نظام اللامركزية.
وتظل الإشكالية هنا في تفعيل الأدوار المؤسسية، ودمج الشراكة المجتمعية التطوعية بصورة تلقائية في هذه اللجان كمظلة قانونية لحل الظواهر الاجتماعية السلبية، وربما علينا أن نترقب قريبا ولادة شراكة مجتمعية فعَّالة ومؤثرة تتناغم وتنسجم، بل وتتماهى مع الغايات الكبرى لنظام المحافظات، والمساهمة في تحقيق الاستراتيجيات الوطنية المتعلقة بمكافحة الظواهر السلبية في كل محافظة ، وفعلًا.. لا تبنى الأوطان، ولا يحافظ على استقرارها إلا أبناؤها.. وأفضل الصيغ المثالية للبناء والحفاظ على كل مجتمع محلي في عالم مفتوح بتحديات غير مسبوقة، ومتعددة ومختلفة بين كل مجتمع، يكون عبر تطبيق ما تدعو إليه تلكم المواد الدستورية والقانونية من إقامة شراكة مسؤولة وملتزمة.. حفظ الله الوطن، ودام عزّه وأمنه.